هل نحن مخلدون
منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، وأوجده على تلك المعمورة وهو يبحث عن إمكانات الخلود، فهو كائن لا يريد الفناء، ويتمنى لو عاش بشكل أبدى، وهو يعيش - بالعموم - وضعًا مفارقًا ومتأرجحًا بين رغبته في الاستمرار والتي تعطيه اندفاعاته وشموخه، بل تبرر له حتى صلاحية الكثير من الأمور التي لا ترتضيها الفطرة السليمة بجميع أشكالها في الأرض، وبين حتمية الموت التي تعطل له غروره وتذكره بعجزه وضعفه وبأنه مهزوم لا محالة، وتدعوه لأن يكف من لعب دور المتجبر الذي لن يكون أبدا من نصيبه، ومن ثم الالتزام بالتواضع. فكيف حاول الإنسان مجابهة هذه الحتمية المريعة، والتخفيف من هذه النهاية غير المقبولة؟ وما هي أهم المقترحات التي تليّن وتلطّف على المرء فكرة زوال الأشياء المؤلمة؟ قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾. [الرحمن الآيتان 26-27].
يتبين من الآية الكريمة ومما لا يدع مجالًا للشك أن ذلك الإنسان الضعيف المستكين المغلوب على أمره ماض في زوال محتوم وأنه في هذه الدنيا الفانية ليس إلا ضيف وبعدها سيرحل تاركًا وراءه كل ما سعى للحصول عليه من متاع وأموال وأملاك وأن ملذات هذه الدنيا زائلة، بل أن العيش في هذه الحياة المتصرمة لا قيمة له إن ابتعدنا من الجادة من الطريق؛ فنحن موجودون لرسالة سامية. نعم أجاز لنا الخالق تبارك وتعالى السعي وراء الرزق والتمتع بكل ما هو متاح من نعم العيش الكريم فمن حقك أيها الإنسان أن تتزوج وتنجب وتمارس حياتك بشكل طبيعي وتسعى للكسب المجاز وأن تحصل على جميع حقوقك التي منحك إياها الشارع المقدس ولكن بعيدًا عن المحظور الذي جاء به نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فالدنيا محطة للتزود بما هو صالح لمقر دائم. وخير الزاد والرصيد الحقيقي والمدخر ليوم تتقلب فيه القلوب والأبصار؛ تقوى الله عز وجل كما ينبغي للعبد ذلك؛ ليفوز - بإذن الله - في الدارين، وتكتب له السعادة الأبدية، والبركة في عمره، ووقته وحياته يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾. [النحل: 97].
كما ينبغي أيضا استذكار وبشكل مستمر رحيلنا عن هذه الحياة وما يتبع ذلك الرحيل إلى ذلك المسكن المخيف الضيق وما يحدث فيه من هول المصير أجارنا الله وإياكم من ظلمته ووحشته وهذا أمر سيحدث ومحقق لاشك ولا ريب فيه؛ لذلك من فوائد ذكر هذه المواقف باستمرار أي الموت يساعد الإنسان على الإقلاع عن المنكرات وعدم المداومة على ارتكاب المعاصي والآثام وأنه لا طاقة لأجسادنا الضعيفة تحمل ما سيحل عليها من أشد العذاب نتيجة الطغيان والإبحار في موج الهوى والشهوات والهرولة تجاه أوامر الشيطان والعزوف عن ما جاء به رب العزة والجلال من حجة وبرهان في كتابه الحق المبين وأن تلك الأعمال لا مناص من حجبها واخفائها على الخالق تبارك وتعالى وفي ذلك اليوم سنواجه بما ظلمنا أنفسنا به من أعمال ومعاص وسيطرح علينا كل ما عملناه في خلواتنا من شبهات ومنكرات. وسنواجه كل ما عملناه في السر والعلن لكل ما أغضبنا به الله سبحانه وتعالى. ولا فكاك من هذا الحدث المخيف الموحش إلا بالتوبة والرجوع إلى الله عز وجل قال جل في علاه: ﴿وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحْصَىٰهَا ۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾. «الكهف الآية 49».
للأسف هذا الموت غفل عنه أكثرنا اليوم؛ لكثرة الأسباب التي تجعلنا نغفل عنه، فتن شتى ومتنوعة، فتنة أموال وفتنة أولاد، وفتنة نساء كاسيات عاريات، نشاهدها على شاشات التلفاز وفي الأماكن العامة والأسواق وفتنة ألعاب شتى غزت جميع المجتمعات، فكان من جراء ذلك التقصير في أداء الطاعات والقيام بالواجبات، والوقوع في كثير من المعاصي والسيئات، والانخداع بفتن الشبه والشهوات، حتى أصبح الموت في طي النسيان!.
ولكن لن ينفع من الموت هروب ولا فرار، ولن يجدي فيه بكاء وحزن، فمتى حان أجله واقترب وعده، فإنه سينزل بنا جميعا، ويخطفنا من بين الأحبة والأخلاء، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ «الجمعة: الآية8».
اللهم نسألك العفو والعافية وأن تحسن خواتمنا وأن تثبت أقدامنا اللهم نسألك إيمانا صادقا، وقلبا خاشعا، وعلما نافعا، ويقينا صادقا، ودينا قيما، إنك على كل شيء قدير.