قراءة في كتاب: فكرة الحضارة.. دراسة تحليلية في الكتابات العربية المعاصرة
عرف المفكر زكي الميلاد بكتاباته ودراساته حول الحضارة والمسألة الحضارية فهو صاحب نظرية تعارف الحضارات، ويعد كتابه ”فكرة الحضارة“ الذي صدرت طبعته الأولى في بيروت سنة 2018م، عن مؤسسة الانتشار العربي بالاشتراك مع نادي الطائف الأدبي الثقافي في السعودية، من كتبه القيمة في هذا المجال الحضاري، ويستحق تسليط الضوء عليه ولفت الانتباه إليه، وذلك لأننا نشهد في المجال العربي نقص الأعمال التي تدرس الحضارة فكرة وتاريخا، وليست لدينا أعمال كبيرة من وزن كتاب ”قصة الحضارة“ لمؤلفه ويل ديورانت.
وعن رؤيته لهذا العمل يقول الكاتب الميلاد: إن هذا الكتاب ما هو إلا محاولة لتجديد الاهتمام بفكرة الحضارة، مع أنه لا يغطي مختلف جوانبها، ولا يتتبع تعاقب أطوارها، وإنما يقف عند المحاولات الأولى المبكرة في المجال العربي المعاصر، وهي المحاولات التي حاولت بدورها إيقاظ الوعي بفكرة الحضارة، والتعامل مع الحضارة بمنطق المعركة، كما في محاولة الدكتور قسطنطين زريق الذي أطلق مقولة ”معركة الحضارة“ لتكون الحضارة هي معركتنا الكبرى.
يحتوي الكتاب على ثلاثة فصول، تتناول عناوين قيمة وعناصر مهمة.
الفصل الأول جاء بعنوان ”فكرة الحضارة في أولى الكتابات العربية المعاصرة“ تطرق فيه الكاتب إلى خمسة عناصر أساسية تحددت بهذا النحو:
1 - أدب الكتابة حول فكرة الحضارة.
2 - زريق.. ومعركة الحضارة
3 - مؤنس.. ومسألة الحضارة
4 - الدراستان.. مشتركات ومفترقات
5 - ملاحظات ونقد
يرى المفكر الميلاد أن في المجال العربي المعاصر هناك محاولتان تتفرد بالاهتمام بأدب الكتابة حول فكرة الحضارة، وهما محاولة الباحث السوري أستاذ التاريخ الدكتور قسطنطين زريق «1909-2000م» في كتابه: «في معركة الحضارة.. دراسة في ماهية الحضارة وأحوالها وفي الواقع الحضاري»، ومحاولة الباحث المصري أستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور حسين مؤنس «1329-1416 هـ /1911-1996م» في كتابه: «الحضارة.. دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها».
وعن عدم الالتفات القوي لهاتين المحاولتين المبكرتين، يعتقد الميلاد أن العامل المؤثر والمشترك في عدم الالتفات المميز إلى هاتين المحاولتين، يرجع إلى ضعف الاهتمام بحقل الدراسات الحضارية في المجال العربي، الحقل الذي يعنى بالحضارة والحضارات فكرة وتاريخا، فقد بقي هذا الحقل متراجعا، ولم يشهد تقدما وازدهارا من النواحي كافة المنهجية والمعرفية، الفكرية والتاريخية، لا على مستوى الأفراد ولا على مستوى المراكز ولا على مستوى الجامعات.
و تناول الفصل الثاني ”فكرة الحضارة عند مالك بن نبي“ وتطرق فيه الكاتب إلى العناصر التالية:
1 - الحضارة.. الفكرة والمنهج
2 - الحضارة.. النظرية وعناصرها
3 - نظرية الحضارة.. الأهمية والقيمة
4 - نظرية الحضارة.. واتجاهات النقد
5 - نظرية الحضارة.. ملاحظات ونقد
افتتح الكاتب والمفكر الميلاد هذا الفصل قائلا: يعد المفكر الجزائري مالك بن نبي «1322-1393 هـ /1905-1973م» أحد أكثر المفكرين هما واهتماما بفكرة الحضارة، ويكفي النظر إلى كتاباته ومؤلفاته للتثبت بسهولة من هذه الملاحظة التي لا يكاد يختلف عليها أحد، وذلك لشدة ظهورها ووضوحها بشكل يغني عن الحاجة للبرهنة عليها أو الجدل والنزاع بشأنها. وما يؤكد هذه الملاحظة ويثبتها في نظر الميلاد أن مالك بن نبي أراد أن يقدم نفسه بهذه الصفة ويعرف بها، وتعمّد الإشارة المستمرة إليها، حتى أنه اتخذ منها عنوانا ناظما لجميع مؤلفاته التي عرفت وتأطرت بعنوان مشكلات الحضارة.
وبعد أن تتبع الكاتب الميلاد شرحا وتفصيلا نظرية الحضارة عند ابن نبي، ختم حديثه بتسجيل بعض الملاحظات النقدية تحددت بالنحو التالي:
أولا: لاحظ الميلاد أن هناك حالة من عدم التناسب وعدم التوازن الكمي والكيفي في حديث ابن نبي عن العناصر الثلاثة المكونة للحضارة، والتي يسميها أيضا بالكليات الثلاث، فحديث ابن نبي عن عنصر الإنسان جاء موسعا من ناحية الكم والكيف، وذلك بخلاف حديثه عن عنصري التراب والوقت الذي جاء مقتضبا ومختزلا من ناحية الكم، ولم يكن ناضجا ومتماسكا من ناحية الكيف.
ثانيا: لفت انتباه الميلاد استعمال ابن نبي تسمية التراب، التسمية التي تمسك بها ابن نبي وحافظ عليها، ولم يبدل أو يغير فيها، معتبرا أن اختيار هذه التسمية جاء دقيقا ومقصودا، لتجنب استعمال تسمية المادة، لتفضيل تسمية التراب عليها، ولتحاشي اللبس فيها، ولكون أن تسمية التراب لم تتطور إلا قليلا واحتفظت ببساطتها، جعلت منها حسب قول ابن نبي تسمية صالحة لأن تدل بصورة أكثر تحديدا على هذا الموضوع الاجتماعي. لكنها التسمية التي لم يجد فيها الميلاد تلك الدقة البيانية من جهة، ولا الدقة المفهومية من جهة أخرى.
ثالثا: يرى الميلاد ناقدا أن ابن نبي أعطى نظريته صفة الثبات والجزم والنهائية، ونظر إليها وتعامل معها وفق هذه الرؤية، ومن الإشارات الدالة على ذلك تحويل النظرية إلى معادلة رياضية متحددة بهذا الشكل: حضارة = إنسان + تراب + وقت.
رابعا: لاحظ الميلاد ناقدا أن هذه النظرية منذ أن عرفت في خمسينات القرن العشرين، ومع كل الاهتمام والتفاعل الحاصل معها في النطاق العربي خصوصا، وبعد ما يزيد على أربعة عقود على وفاة ابن نبي، مع ذلك يمكن القول إن هذه النظرية بقيت على حالها من دون أن يحصل فيها تغير أو تحول، تطور أو تجدد، كميا أو كيفيا، أفقيا أو عموديا، تحليليا أو نقديا، ومازالت هذه النظرية إلى اليوم على هذا الحال الساكن والجامد.
وفي نظر الميلاد أن الذين جاؤوا بعد ابن نبي من تلامذته ومتابعيه باحثين وأكاديميين جزائريين وعرب، تعاملوا مع هذه النظرية في حدود الشرح والتعريف، الثناء والتبجيل، الدفاع والتصويب، وهذه الطريقة لا تخدم النظرية على المدى البعيد، وتؤدي بمرور الوقت لإصابة هذه النظرية بحالة الجمود والسكون، وفقدان عنصر الفاعلية والحركة.
و أما الفصل الثالث فجاء بعنوان: ”فكرة الحضارة بين مالك بن نبي وسيد قطب“ تطرق فيه المفكر الميلاد إلى العناصر التالية:
1 - المناظرة.. الفكرة والنص
2 - المناظرة.. مواقف وآراء
3 - المناظرة.. ملاحظات ونقد
استهل الميلاد هذا الفصل شارحا فكرته وقضيته قائلا: حصلت بين مالك بن نبي وسيد قطب مناظرة وجيزة، لكنها مناظرة نادرة حول فكرة الحضارة وعلاقتها بالإسلام والمجتمع الإسلامي، وهذه لعلها في نظر الميلاد المرة الأولى التي يتم فيها استعمال تسمية المناظرة وصفا لما جرى بين الرجلين، فقد استعملت بحقها تسميات أخرى منها: الخلاف والاشتباك والتباين وغيرها، ولم يكن من بينها تسمية المناظرة التي تصدق على هذا المورد. وقد تقصد الميلاد استعمال هذه التسمية لإعطائها هذا الأفق، ولتجديد النظر فيها.
وعن رؤية الكاتب الميلاد إلى هذه المناظرة بين مالك بن نبي وسيد قطب في فكرة الحضارة، يمكن تحديدها في النقاط التالية:
أولا: يرى الميلاد أننا بأمس الحاجة إلى مثل هذه المناظرات التي تتخذ من الحضارة وجهة وقضية، وليس هناك أفضل من الحضارة موضوعا للمناظرة والمناظرات بين المسلمين، علماء ومفكرين ومؤرخين، فالحضارة هي من أكبر الموضوعات وأهمها على الإطلاق، وأكثرها حيوية، وأجودها أفقا، وأنضجها مصيرا.
ثانيا: يعتقد الميلاد أن ابن نبي وقطب في وقتهما لم يلتفتا إلى أنهما بصدد مناظرة حول فكرة الحضارة، وأنها مناظرة تحصل لأول مرة في زمنهما حول هذه الفكرة العظيمة التي لا يختلف أحد على عظمتها وأهميتها الفائقة، وأن من النادر حصول مثل هذه المناظرة في ساحة العرب والمسلمين، الأمر الذي كان يقتضي - حسب قول الميلاد - العناية بهذه المناظرة فكرة وموضوعا، منهجا وأسلوبا، والعمل على تجويدها وتعميقها وإظهارها على أحسن صورة، وعيا وإدراكا بأهمية فكرة الحضارة، حتى تأخذ هذه الفكرة مداها وأفقها وتموجها في ثقافة العرب والمسلمين، ولكي تكون بصيرة لهم في النظر إلى حاضرهم ومستقبلهم. لكن الذي حصل ظهر وكأن الوعي بفكرة المناظرة كان غائبا عند الرجلين على السواء، وبدل أن تصبح مناظرة فكرية معمقة وممتدة ترتفع بفكرة الحضارة نحو التموج والانتشار، تحولت إلى ما يشبه مساجلة دفاعية تنكمش فيها فكرة الحضارة وتتقلص، وحتى لو تساهلنا - والكلام للميلاد - وقلنا عنها إنها مناظرة فهي مناظرة غير مكتملة من جهة، وغير معمقة من جهة أخرى.
ثالثا: من ناحية الموقف العام يلحظ الميلاد أن ابن نبي ظهر في موقف المسكون بهاجس التقدم والتحضر، بينما ظهر قطب في موقف المسكون بهاجس الهوية والخشية على الهوية، مع ملاحظة أن ابن نبي مع انه كان مسكونا بهاجس التقدم والتحضر لكنه في الوقت نفسه كان ملتفتا إلى فكرة الهوية، يتمسك بها ويدعو إلى حمايتها، ولا يقبل طمسها وتمزيقها وتعريضها للتشوه أو الاختراق، وهذا هو نهجه الفكري الذي بقي ثابتا عليه. بينما كان قطب - كما يقول الميلاد - مسكونا بهاجس الهوية الشديدة، لكنه لم يكن ملتفتا بالقدر الكافي إلى فكرة التقدم التي تقلصت عنده وتراجعت، بل وتلاشت في كتاباته الأخيرة حين أظهر فيها تشككا وريبة من فكرة الحضارة، معتبرا أنها تحمل ظلالا أجنبية غربية تغبش التصور، وتحرم من الرؤية الواضحة الأصيلة.
رابعا: صور الميلاد أن الحضارة حسب رؤية قطب منحصرة كليا وبشكل تام في المجتمع الإسلامي، فلا حضارة بدون مجتمع إسلامي، ولا مجتمع إسلامي بلا حضارة، لأن الإسلام في نظر قطب لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات لا ثالث بينهما، مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي، الأول مجتمع متحضر بذاته لا ينفك عن الحضارة، والثاني مجتمع متخلف بذاته لا ينفك عن التخلف. وحسب هذا المنطق فإن الحضارة إنما ظهرت مع الإسلام، وتجلت في المجتمع الإسلامي، فلا حضارة ولا حضارات قبل الإسلام وما بعده، وعلى هذا الأساس فإن كل الحضارات التي عرفها التاريخ الإنساني على مر الأزمنة والعصور القديمة والوسيطة والحديثة، والتي أوصلها المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي إلى إحدى وعشرين حضارة ظهرت وازدهرت في مختلف أمكنة المجتمعات الإنسانية على تنوع أديانها وثقافاتها، لغاتها وألسنتها، قومياتها وأعراقها، هذه الحضارات في نظر قطب ليست حضارات، ولا يصدق عليها وصف الحضارة، إنما هي جاهليات، ويصدق عليها وصف التخلف.
خامسا: يرى الميلاد أن قطب قسم المجتمعات الإنسانية إلى قسمين لا غير، هما المجتمع الإسلامي والمجتمع الجاهلي، وهو تقسيم يرتكز على أساس الدين الذي لا يرى قطب غيره مرتكزا وأساسا في النظر إلى المجتمعات وتقسيمها وتقويمها. ومن الواضح في نظر الميلاد أن استعمال وصف الجاهلية جاء بقصد تقبيح صورة المجتمعات غير الإسلامية، والدعوة إلى هجرانها وقطع الصلة بها، فلا يمكن التواصل مع مجتمعات توصف بالجاهلية، كما لا يمكن لهذه المجتمعات أن تتواصل مع من يصفها بهذا الوصف الموغل في التقبيح، فليس هناك وصف أكثر حدة وتنفيرا وتقبيحا من هذا الوصف. وبهذا الوصف - والكلام للميلاد - يكون قطب قد قطع الطريق على إمكانية التواصل مع التجربة الإنسانية الممتدة في التاريخ والعابرة من الأزمنة القديمة إلى هذه الأزمنة الحديثة، التجربة التي سطر فيها الإنسان أعظم ملحمة في الكفاح من أجل الفوز بالحياة الكريمة، وكشف فيها عن ذكائه العظيم، وعبقريته الفذة، ونبوغه المدهش، وعن صبره الكبير، وطاقته الجبارة على التحمل، فحقق ما حقق من إنجازات ومكتسبات في الميادين كافة، هذه التجربة التي تعد أثمن ما تملكه البشرية اليوم تكون لا قيمة لها حين نصفها بالجاهلية.
سادسا: ذكر الميلاد أن ابن نبي يرى أن مشكلة قطب في تحليل موقفه تجاه فكرة الحضارة وعلاقتها بالمجتمع الإسلامي هي مشكلة نفسية، في المقابل يرى قطب أن مشكلة ابن نبي في هذا الجانب هي مشكلة فكرية. مشكلة نفسية أعطاها ابن نبي صفة عقدة نفسية تجلت في صورة موقف فكري سلبت من قطب إمكانية دراسة مشكلات العالم الإسلامي بطريقة موضوعية، وعقدت مجهوده، وموهت عليه طبيعة هذه المشكلات، وتسببت بحالة من التحريف اللاشعوري. ومشكلة فكرية في نظر قطب أرجعها إلى ضغط الرواسب الثقافية المؤثرة في التكوين العقلي والنفسي، والآتية من مصادر أجنبية غريبة على الحس الإسلامي تغبش التصور، وتطمسه وتحرم من الرؤية الواضحة الأصيلة، وسبق وأن حصل هذا الحال معه كما يقول قطب عن نفسه، وتكرر في نظره مع ابن نبي في طريقة فهمه لفكرة الحضارة حين جعل من الفكر الأوروبي مصدرا له. ومن جهته يرى ابن نبي أن قطب بهذا الموقف لا يستطيع مواجهة مشكلة الحضارة، في حين يرى قطب أن ابن نبي لا يستطيع فهم الحضارة وتعريفها بعيدا عن ضغط الرواسب الفكرية الأجنبية المؤثرة في تكوينه الفكري.
وبينما ظهر ابن نبي ثابتا في موقفه، ظهر قطب متحولا في موقفه، فبعد أن كان متوافقا مع ابن نبي تراجع عن موقفه وانقلب عليه، الأمر الذي يعني أن تراجعا حصل عند قطب قاده إلى تغيير موقفه ودفعه نحو الانغلاق والانكماش، في حين اتسم موقف ابن نبي بالانفتاح والتواصل.
سابعا: يتمم الميلاد ملاحظاته وتقويماته قائلا: في الفترة الأولى من المناظرة كان لموقف قطب سطوة التأثير متوفقا من هذه الجهة على موقف ابن نبي، لا لأن قطب كان متفوقا من الناحية الفكرية بل لأنه كان معروفا آنذاك في مصر وفي المجال العربي أكثر من ابن نبي، ومرتبطا بجماعة كبيرة وممتدة في المنطقة العربية هي جماعة الإخوان المسلمين. الأمر الذي يعني أن التأثير الشخصي في هذه الحالة تفوق على التأثير الفكري، والجانب البياني تفوق كذلك على الجانب البرهاني، فقد ظهر قطب في موقف المدافع عن الرؤية الإسلامية الواضحة الأصيلة، بينما ظهر ابن نبي في صورة التابع إلى الثقافة الأوروبية الراكن لرواسبها الفكرية، وحسب هذه الصورة فإن قطب عد أكثر أصالة من ابن نبي وأكثر صفاء، وترك هذا الموقف تأثيرا في نظر البعض تحدد في الحد من انتشار فكر ابن نبي خصوصا على صعيد الشباب، والأقرب أن هذا التأثير حصل في الفترات السابقة، وظهر على الأغلب في ساحة المرتبطين أو المتأثرين بفكر الإخوان المسلمين أو المتأثرين بالأدب الفكري لقطب، لكن صورته اليوم قد تغيرت وتبدلت معها موازين النظر، ولم يعد لقطب التأثير السابق الذي تراجع بصورة كبيرة، وأصبح موقف ابن نبي يفهم بأنه أكثر تقدما وعقلانية.
هذه كانت مطالعة استطلاعية لرؤية الميلاد حول فكرة الحضارة في الكتابات العربية المعاصرة، ونختم مذكرين بقول المفكر الميلاد شارحا حكمته من الحاجة لفكرة الحضارة في عالم المسلمين اليوم قائلا: إننا اليوم بأمس الحاجة لاستعادة الحديث عن فكرة الحضارة، من أجل أن يتجاوز العقل المسلم المعاصر المدارات الضيقة والمأزومة، ليصل إلى المدارات الواسعة والواعدة حضاريا، فالمدارات الضيقة قيدت أفق العقل المسلم، وجعلته ينصرف نحو الانشغال بالقضايا الهامشية والجزئية التي تبدد الطاقات، وتهدر الإمكانات، وتضيع الفرص، وبتأثير هذه المدارات المأزومة انبعثت في الأمة واشتدت نزعات التعصب والقطيعة والانغلاق، وتراجعت نزعات التسامح والتواصل والانفتاح.
ويضيف الميلاد متمما كلامه قائلا: كما إننا بأمس الحاجة لفكرة الحضارة واستعادة الحديث عنها، لإخراج المسلمين من تيه السجالات المذهبية والكلامية القديمة والعقيمة، التي عززت الخصومات، وكرّست الانقسامات، وأججت الخلافات، وأعادت المسلمين إلى الوراء، وأظهرتهم كما لو أنهم مازالوا يعيشون في القرون السابقة، غير قادرين على التخلص من إرث الماضي وسطوته، والعبور من الأزمنة القديمة الجامدة إلى الأزمنة الحديثة المتقدمة متطلعين إلى المستقبل وآفاقه الرحبة.