أياك... أن تصدق..!
في كتاب مقعد على ضفاف السين للكاتب الفرنسي أمين معلوف.. كتب أحد أصدقاء الملك واسمه رشوليو نصا قصيرا بلاتينية كان راضيا عنه كل الرضى، فطلب من أحد المقربين منه أن يعرضه على الكاتب العظيم نوكولا بوربون ليقول فيه رأيه بصدق وبوضوح، فصدق الأديب الكبير إنها لاتينية هزيلة..!.
وقد تقبل صديق الملك الحكم على نصه بل واعتبره سديدا، وله أسبابه... ولكن في نهاية العام. لم تصل عطية الملك التي اعتاد أن يهبها كل سنة للكاتب العظيم.. نيوكلولا بوربون..! وعلق المؤرخ.. «لشدة صعوبة الإصغاء إلى صوت العقل، وإسكات صوت الكبرياء بشأن كل ما يبدر منا». والمؤرخ لم يخبرنا إن عادت العطية مرة أخرى.... أو ظلت عقوبة الحرمان من العطاء طيلة ما بقي من عمر الكاتب العظيم..!.
والمؤرخ عبد الرحمن بن محمد ابن خَلدون.. وهو في مقتبل عمره، عمل عند السلطان عبد العزيز المريني..، وسرعان ما ألقاه غاضبا عليه في أشد السجون قسوة على ساكنيها، وفي سبب هذا التبدل من الحظوة إلى النبذ، والعقوبة القاسية. روايتان الأولى تزعم خيانة ابن خلدون لولي نعمته من خلال مراسلته لأحد الأمراء من خصوم السلطان، ورغم كوني لست مؤرخا لم أقبل هذا الرأي ليس للقيمة الأخلاقية لإبن خلدون، ولكن لكونه حينها كان قريب عهد بالعشرين من عمره، وأضعف تأثيرا وحضورا من اختياره لمهمة على هذه الدرجة من الخطورة. وهو في تجربته الأولى داخل البلاط..
والرواية الثانية.. هو أن السلطان طلب منه أن يكتب له كتابا يبين فيه بصدق.. عيوبه.. وعيوب سياسته.. وكافة أوجه القصور والأخطاء فيهما!!. وان الفيلسوف الصغير الغر صدق.. وكتب للسلطان كتابا فيه من الصدق ما جعل السلطان يرسل إليه من ينتزعه من فراشه.. ويودعه في أقسى السجون لديه...!.
وبعد عامين كاملين من العذاب... والأذلال المهين.. كتب ابن خلدون للسلطان هذه الأبيات... ونجح في إيصالها أليه...
على أي حال لليالي أعاتب
وأي صروف للزمان أغالب
كفى حزنا إني على القرب نازح
وإني على دعوى شهودي غائب
وأني على حكم الحوادث نازل
تسالمني طوراً وطوراً تحارب
سلوتهم إلا اد كار معاهد
لها في الليالي الغابرات غرائب
وإن نسيم الريح منهم يشوقني
إليهم وتصبيني البروق اللواعب
فأشفق عليه السلطان جدا ولكنه لم يفرج عنه..!. وكأنه قد عزم أن يبقيه عمره كله في السجن، ولكن ابن خلدون كتب الله له عمرا بوفاة السلطان المفاجئة، وفي يوم دفنه، قام أحد الوزراء المحبين له، بالإفراج الفوري عنه..!.
وكان لهارون الرشيد محاولات متواضعة لنظم الشعر، ومن حسن الحظ انه لم يصر على المضي فيها.. وفي كل مرة يقسم على الشاعر الحسن بن هاني أبو نواس أن يصدقه القول فيها..!. ثم كان يربطه بعدها في حظائر الحمير والبغال..!. حتى أن أبا نواس كان يقف وينادي أحد الخدم ليربطه ما أن ينتهي الرشيد من إلقاء واحدة من روائعه الشعرية.. التي تجعل النوم في الحظيرة أهون من مجاملته فيها..!.
الصورة الذاتية التي تحملها كل نفس لذاتها، تختلف كليا عن رؤية الناس لها، كما أنها تميل إلى محبة كذب المدح والثناء على صدق النقد وإن رق وشف، وطهر من الغرض..!. غالبا تجد كل نفس ذاتها أكبر، احسن، وأفضل من واقعها وحقيقتها، وهذا سبب حمل كل نقد على محمل الغيرة والحسد والضغينة المستترة..!.
وفي داخل كل نفس هشاشة وضعفا.. الله وحده المطلع والبالغ عمقها ومنتهاها..!. أياك ثم أياك.. أن تصدق غواية طلب التقييم الصادق...! خاصة ممن بيده عصاة طويلة وغليظة.. وقريبة من ظهرك..!. أو قرار طردك من عملك، أو زيادتك ونقصك..!.
إن المشاركة النقية.. تكون للمحبين بصدق حصرا، لأن الروح هي الروح، والنفس هي النفس، وتنهض بينهما غيرة من ظهور العيب والنقص وعدم الكمال والتمام..
وتكون لفئة قليلة كالملح المنثور على الطعام.. متهمة لنفسها بالتقصير، معرضة عن رؤيتها موصوفة بالكمال والتمام في ذاتها أو صفاتها أو أفعالها..، فإن صادفت نقدا طاهرا صادقا.. فكأنه.. دواء لعلة تتلمس الخلاص منها، وكأنه مطر وقد يبست النفس من طول حرمانها منه عذوبة صدق، وطهر يتجلى.
وما خلا هذا فإياك أياك أن تصدق.. أن أحدا من الناس.. جادا في طلب تقييمه ونقده منك، وحين يقولها لك، فهذا يعني أنها فرصة سعيدة للثناء عليه فقط.. فلا أحد يود سماع عيوبه أو نقصه منك.. أو من غيرك..