إلى أين هم.. ذاهبون
إن التطلعات الإصلاحية في حدَّ ذاتها أمراً مشروعاً لمواصلة السير في ردم الهوة التي تعرقل المسير بكافة مستوياته، وهو نوع حِراك وتدافع على المستويين المعرفي والسلوكي معاً، وذا بطبيعته يفرض مساراً منضبطاً بحدوده ومدياته ومعالمه التي ينبغي السير فيه بغية جني الثمار المرجوة، غير أن هذا الأمر يأخذ شكلين من القائلين به:
فالأول: من يعمد بشكل دؤوب على استجلاء معالم ذلك الطريق ليمتثل نحوه بخطوات راسخة وثابتة مهما أوصلت من نتائج.
والثاني منها: من ينشد هذا الأمر على نحو يوائم تطلعاته الشخصية والتي أقرب ما تكون منها إلى الذوق والاستحسان لا غير، وبذا سوف يكون الالتزام مجانف لسيره المعرفي والسلوكي أيضاً.
بهذه المقدمة أنطلق من النموذج الثاني والذي تمثل بصورة جلية في إحدى المقالات التي قرأتها تحت عنوان * ”نحن“ و”هم“ * فقد جاء هذا المقال كملاحظات نقدية حول أطروحة المنبر الفكري لهذا العام، غير أنه يكتنف الكثير من علامات الاستفهام والتي ينبغي الوقف عندها بشكل دقيق لنمحص طبيعة الأفكار المبثوثة فيها، وهل تتصف بما طالبت به من إنصاف وحيادية أم لا؟
إن افتراض المقارنة بين أمرين يستلزم وجود حالة التكافؤ بينهما أو وجود عناصر متقابلة نستطيع على ضوئها إجراء المقارنة المنصفة، لنقف من خلالها على نقاط القوة والضعفِ في إحداهما، وعليه نقرر أن الأجدر بالامتثال هو هذا أو ذاك. والأمر بيّن بهذا القدر إلى المتطلع نحو الخروج بالنتائج الموسومة بالموضوعية والحياد.
غير أن الفكرة التي تصدرت المقال لم تلحظ هذا التكافؤ، بل لم تقرّ به من الأساس، إذ أن الكاتب عمد على تصوير المتبني للمنظومة الدينية مستجدٍ لأساليب تجعل منه في موقع قوة من خلال إبراز المنظومة الغربية بشكلها المشوه أو الممسوخ وإخفاء المحاسن التي يجب علينا إبرازها وذكرها!
ونعلم أن الذي يلوذ بذلك الأمر يستبطن الضعف في معطياته ومستنداته ولا يستطيع البرهنة على ما يدعيه، فهذا الإيحاء المؤطر نوع توجيه لذهن القارئ للسير في حدود استباقية رسمها الكاتب له. غير أن الحال خلاف ذلك، فالمنظومة الدينية تمتلك من المقومات ما يجعل لها القدم الراسخة في الثبات من خلال ما تقدمه من أفكار ورؤى مستندة على ترسانة المباني العقلية، وهذا ما كفل لها البقاء في ظل الهجمات الشرسة التي انقضت على الأسس المعرفية والفكرية للمنظومات الأخرى والتي شهدت حالة من الضمور والاضمحلال في كثير من جوانبها نتيجة العاصفة التنويرية، فالمطّلع على الأحداث التاريخية يدرك ذلك جيداَ.
وعليه إن ما عبّر عنه الكاتب أنه اجتزاء وفلترة، غير دقيق إذ في حدود التتبع للمنبر الفكري لهذا العام لم نجد ما أشار إليه، فلو كلف نفسه وتجشم عناء ذكر مثال على ما قاله لكان أجدى وأصوب، ولأخرج فكرته من بوتقة الادعاء إلى حيز الإثبات والبرهان، وهذا مالم يكن! نعم قد يتطرق المعتقد بالمنظومة الدينية إلى بيان السيرورة التاريخية للمفاهيم الأخلاقية في المنظومة الغربية وإبراز الشكل النهائي التي تقف عندها، فهذا لا يعد ابتساراً بل عملية توصيفية.
كما أن المطالبة بالإنصاف يحتاج إنصافاً أيضاً، وهذا ما لم يكن بل استحالت تلك الدعوة إلى فرض المسبقات الذهنية التي أُسقطت على المتبني للمنظومة الدينية من خلال عدة أمور تجلت في كلمات الكاتب منها:
تصوير القائل بالمنظومة الدينية والمنتقد للمنظومة الغربية بأنه يعيش حالة الأدلجة وإن لم يكن ذلك تصريحاً غير أن التلميح في كثير من الأحايين أبلغ، وظهر هذا في قوله ”... التي تدعم فكرته المعدة مسبقاً“، إذ أنه سبق بتشكيل بناه الفكرية ومن ثمة عمد على تدعيمها من خلال سوق الاستشهادات التي تصب في ذلك، ويعد هذا الأمر رجماً بالغيب! فمن أين عرف الكاتب أن المنتقد للمنظومة الغربية شكل فكرته أولاً، أو أن الأدلة هي من أوصلته لهذه النتيجة؟
والأمر الأخر الذي يصوره الكاتب، هي حالة التوجس الموجودة للقائل بالمنظومة الدينية من أجل الحفاظ على الهوية الدينية للناس، وذلك من خلال إخفاء الجوانب السلبية في المنظومة الدينية ومحاولة التعتيم عليها، نعم. وحينما نسير تباعاً في أرجاء مقاله باحثين عن الجوانب السلبية التي يقول بها.
لا نجد شيئاً من قوله: سوى أن بعض الأحكام تخالف ولا تتماشى مع القضايا العليمة المثبتة وحقوق الإنسان! وهذا أمر عجيب إذ أن الملاك والمعيار أصبح للقضايا العلمية وحقوق الإنسان التي يقول بها، وعليه يتبين أن تلك الدعوة أبعد من كونها طلباً للإنصاف والموضوعية، بل هي نوع محاكمة للمنظومة الدينية على ضوء المنظومة التي يؤمن بها، فهي المقومة لصحة الأفكار والمعتقدات. وبذا يكون وقع فيما قاله عن الأخرين من خلال التبني المسبق والمعد! هنا تتلاشى علائم الإنصاف المزعوم!.