قراءة في ديوان ”مائدة رمضان“ للشاعر الأديب الحاج محمد حسين الرمضان
على مائدة الشاعر الكبير
ذو سَمْتٍ ووقار، جمُّ العطاء والأدب، كثير التأمل والتفكُّر، لا يؤذي أحداً ولو بنظرة، يغمر كل من حوله بتواضعه وأُبوَّته. هكذا كان الأديب والمؤرخ والشاعر الكبير الحاج محمد حسين الرمضان الذي خسرته الأحساء وفقَده محبُّوه في العشرين من ذي الحجة عام 1441 هـ .
هو أول شاعر أحسائي يطبع ديوان شعري في العصر الحديث «مائدة رمضان - دمشق 1965م». ترك من خلفه ثروة من الفكر والفن والأدب والذكر الحسن. أبدع قلمُه في سبك الأحرف كما أبدعت إبرتُه في تطريز ”البشوت“:
واجهتُ معركة الحياة بإبرةٍ فإذا هُزِمتُ فإنني معذورُ!
نعم، هذا هو العم أبو سمير.. رجلٌ لم يقض عمره جرياً وراء المال أو المناصب أو الشهرة، وإنما قضاه متبتِّلاً في صومعة الفكر والحرف والوجدان والبحث عن إنسانية الإنسان.
عندما نقف على شاطئ بحر شاعرٍ كبير مثل أبي سمير، لا يصح أن نقف عند حدود قوة العبارة وجزالة اللفظ وقوة السبك والعاطفة الوقَّادة، بل يجب أن نذهب إلى أبعد من ذلك بكثير لأننا أمام شاعر يمتلك مقومات الشاعر الكبير.
شاعرنا الراحل أبو سمير لا يكتب الشعر جزافاً... هو ليس كالعازف الذي يعزف على الوتر لمجرد أن يُطرب السامعين... كلا، بل هو في شعره خصوصاً التأملي منه والوجداني ينطلق من نظرة فلسفية متعمقة تختزل في طياتها الكثير من تجارب الحياة، ولذلك ترى شعره يُحرك العقل والفكر تماماً كما يُحرك المشاعر:
وغِرٍّ يقول ابتسم للحياة وكيف ابتساميَ في مأتمِ؟!
أأبسمُ والدمع في مقلتي وأضحك والنار في أعظمي
وما أن بقيتُ وعقلي معي فلن أتلذذ بالمؤلمِ
وكم لذةٍ في انعدام الشعور ويا بؤسَ للشاعر الملهمِ
رضعتُ صبياً لثدي الهموم وها قد كهلتُ ولم أُفطمِ!
وشاعرنا الراحل كان يسكنه دائماً هاجس التساؤل والبحث عن إجابات عن الحياة والوجود:
وُجِدتُ ومالي في وجودي من يدٍ وأفنى وما أسطيع دفع الفنا عني
وذاتي وجودي لم أكن قطُّ غيرَها فما نعمة الإيجاد بعدُ ومن تعني؟!
هو فيلسوف لا يقف عند حدود الأشياء ومظهرها الخارجي الزائف، بل يذهب الى سَبر غورها حتى يصل إلى جوهر حقيقتها:
أبداً لا يروعني الدهر إن جار فعندي لكل شرٍ حسابُ
هو عندي كحفنةٍ من ترابٍ ليس للراغبين فيها رِغابُ
وإذا قيل فيه ما يُبهج النفس وما يُشتهى وما يُستطابُ
لم أُصدِّق ولم أُكذِّب وعذري أنني في سلوكهِ مرتابُ
فإذا صحَّ ما يُقال ربحناه وإلا فرأس مالي ترابُ
هو صاحب الروح الكبيرة التي تعيش حالة البحث الدائب عن الرقي والسمو والكمال ولا ترسُف في قيود حاجات الجسد. تأَمَّل معي هذه الحكمة:
وربَّ حيٍّ كميتٍ في تفاهتهِ لولا التشخُّصُ لم يُعرف له أثرُ
وشاعرنا جريء في تحدي نفسه ونقد ذاته، فلا يعمد إلى مدح نفسو وتلميع صورته أمام الأخرين، وهذا شأن العظماء، كلما ازدادوا رفعةً ازدادوا تواضعا:
إذا كَلَّ عزمي أو نبا دون غايةٍ تجاهلتُ عجزي واتهمتُ زماني
وقلتُ يُعاديني وما قلتُ باطلاً زمانٌ يعادي الخامل المُتواني
وهو حكيمٌ يمتلك من بعد النظر ما يُمَكِّنه من استشراف صيرورة الأحداث، فعندما كتب أحدهم في ثمانينيات القرن الماضي قصيدة مادحاً من أسموه زوراً ”حامي حمى البوابة الشرقية“، كتب أبو سمير ورَدَّ على تلك القصيدة بشاعريته وأسلوبه المعهود المفعم بالاستدلال العقلي والتسلسل المنطقي «وكان ذلك قبل غزو الكويت»:
لا تمدح الكلب فعما قليل يضطرك الكلب الى ذمِّهِ
ولا يغُرنَّكَ حتى وإن عضَّ عدواً لك في يومهِ
فربما عضَّك أو عضَّ ذا قرابةٍ في الغد من لؤمهِ!
وهذا ما حدث فعلاً!!
وكحال أصحاب النفوس الكبيرة، تجده يتبرَّم عندما تشغله التوافه، بل حتى الأمور المهمة كطلب المعيشة، لأنه كالناسك الواله الذي لا تنتابه السكينة إلا عندما يعود الى كنف محرابه وصومعة تبتُّله:
أنا في هذه الحياة كأني غِبت عنها فلي إليها اشتياقُ
شَغلتني عن التأمل فيها بتكاليفها التي لا تطاقُ
ما نصيبي وكل وقتي لرزقي من حياتي، لا كانت الأرزاقُ!
ختاماً، سيبقى العم أبو سمير الغريد الصادح الذي لن تنساه ذاكرة الأحساء والمنطقة، فهو الذي عاش في كَنَفها صادحاً مُتغَنياً بكل ما في هذا الوجود من جمالٍ وألمٍ وأمل:
فجمال الوجود أخرج مني وتراً شادياً بأشجى المعاني
إنَّ شوقي له استحال غناءً لحَّنَتهُ قيثارة الأشجانِ