آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 12:18 م

النافذة التشغيليّة المثلى

طه الخليفة

في علوم الهندسة، يقوم المهندسون بتصميم الآلات بقدرة تتناسب مع الحمولة المتوقّعة، إذ لا فائدة من تصميم آلة تفوق قدرتها بكثير الحمولة المتوّقعة، ففي ذلك هدرُ للموارد، وتكلفة إضافيّة غير ضروريّة. كذلك، تصميم آلة بقدرة تحمّل أقل من اللازم، لا يؤدي الغرض المنشود، وقد ينتج عن ذلك تلفٌ للآلة. فكل آلة لها ما يسمّى بالنافذة التشغيليّة المثلى، التي تحرز توافقاً ما بين قدرات الآلة، والحمولة المستخدمة من أجلها.

خلق الله - سبحانه وتعالى - الإنسان بتصميم فريد، ومبهر، تتجلى فيه القدرة الإلٰهيّة، فكل إنسان يولَد ولديه استعدادات، وقابليّات، جسدية، وروحيّة، وفكرية خاصة، تتأثر فيما بعد بالعوامل التالية:

1 - البيئة التي يعيش فيها الفرد، والتي تتضمن الطبيعة المحيطة، والزمن، والمجتمع، تؤثّر كثيراً على تنمية تلك الاستعدادات، والقابليّات.

فمن يعيش في طبيعة جبليّة يتأثر جسدياً بشكل مختلف عمّن يعيش في منطقة سهليّة، ومن يستخدم الخيل للتنقل يتأثر بشكل مختلف عن من يركب السيّارات، والطائرات. كذلك، من يعيش في بيئة مفكّرة، تنمو قدراته العقليّة أكثر ممن يعيش في مجتمع ليس للفكر فيه مكان كبير.

2 - التجربة التي يخضع لها الفرد، تشكّل أيضاً عاملا كبيراً في تنمية قابليّات الإنسان، فجسد من يمارس الرياضة أكثر تحملاً من نظيره غير الممارس لها، وفكر المتعلّم، والقارئ المطّلع يتفوّق على الجاهل. كذلك في الجانب النفسي، والروحي، التجربة تصنع فارقاً، فالإنسان الاجتماعي يختلف عن المنغلق في علاقاته، والإنسان المنضبط سلوكاً، وأخلاقاً تنمو قدراته بشكلٍ مختلف عن نموّها في غير المنضبط.

إذاً فالإنسان يولد بقابليّات، واستعدادت، وتلعب البيئة، والتجربة دورهما في التأثير على هذه القابليّات، فتتشكّل، وتتغير قدرات الإنسان وفقاً لذلك، فيتكوّن لكل فرد منّا ”نافذة تشغيليّة مثلى“، طبقاً لقدراته في كل لحظة من حياته.

الجميل في هذه النافذة لدى الإنسان، أنها نافذة متحرّكة، وفقاً لنمو القدرات، أو اضمحلالها.

إن إدراكنا أن لكلّ إنسان منّا ”نافذة تشغيل مثلى“ متحرّكة، مفيد في عدة نواحٍ حياتيّة، ونذكر منها:

1 - أهميّة تطوير الذات وتأثيره على قدرة الفرد للعب دوره في الحياة. غالباً، الدور الذي يناط بفرد ليلعبه يكون متّسقاً مع قدراته، فالإنسان كالإناء لا يمكن أن يحتوي أكثر من سعته.

2 - أهمية عامل الوقت في تنمية القدرات، فالعدّاء، على سبيل المثال، الذي يريد أن ينهي سباقاً في وقت معيّن، يحتاج إلى وقت مناسب، لتنمية قدراته لتصل إلى ذلك المستوى، والمبدع يحتاج أن يقضي وقتاً كافياً في التعلّم، والممارسة حتى يصل إلى القدرة على الإبداع.

3 - إنّ تكليف إنسان لا يتمتّع بالكفاءة اللازمة للقيام بدور ما، خطأ في حقّه أولاً، وفي حق المؤسسة، والمجتمع ثانياً، فمصيره كمصير الآلة التي تُحمّل أكثر من طاقتها فتتلف، أو لا تؤدي الدورَ المطلوب منها كاملاً.

4 - كذلك، عدم الاستفادة المثلى من القدرات لدى الأفراد، يكون هدراً للقيمة التي يمكن لهم أن يضيفوها، فهذا يشبه تسيير شاحنة قادرة على حمل ثلاثين طنّاً، بحمولة تقل عن ذلك.

5 - غالباً، لا أحد أعلم بالإنسان، غير الله عزّ وجل، من نفسه، فهو من يعرف قدراته وعليه أن يدرك أنّ لكل دورٍ في الحياة متطلبات، ومستوى كفاءة، وأن عدم مراعاة ذلك، ستقوده إلى الفشل، وربما تُسبّب له الأمراض النفسيّة، والجسديّة. وهنا لا نقصد حسرَ الطموح، بل العكس، نرمي إلى تطوير القدرات والكفاءة، سعياً لتحقيق الطموحات العالية.

ادعو نفسي وكل من يقرأ، أن نستمرّ في تطوير قدراتنا النفسية، والجسديّة، والفكريّة، لكي تستمر الحركة الايجابيّة لـ ”نوافذنا التشغيليّة المثلى“، وتعكس الاستعدادات، والقابليًات التي منّ الله بها علينا، إلى أقصى مدى.