القيادة من الخلف
في العقد الثاني من هذا القرن، برز إلى ساحة البحث، والنقاش، والتبنّي القيادة من الخلف، كأحد أكثر أنماط القيادة فعاليّة في الزمن الراهن. ويقول الباحثون، وربما من أبرزهم البروفيسورة، ”ليندا هيل، Linda A. Hill“، من جامعة هارفارد الأمريكية: إن أول من طرَح هذا النمط من القيادة، هو القائد الجنوب أفريقي الراحل، ”نيلسون مانديلا“ في كتاب سيرته الذاتيّة، ”رحلتي الطويلة من أجل الحريّة“.
شبّه نيلسون مانديلا القائد براعي القطيع، الذي يرعى قطيعه، ويقوده إلى الوجهة المقصودة، وهو يسير خلفه، تاركاً لأعضاء القطيع حريّة الحركة، طالما أنهم يسيرون في الاتجاه الصحيح، رغم تقدّم البعض، وتأخر البعض، وتناوبهم في التقدّم، والتأخر. كما أن الراعي يراعي الظروف الطارئة، كعبور القطيع لإحدى الطرق، أو تعرّضه لخطر، أو خروج بعض أعضائه عن المجموعة، فيغيّر الراعي من موضعه لمعالجة الظرف الطارئ، ومن ثمّ يعود إلى موقعه المعتاد خلف القطيع، ليمارس دور القيادة من الخلف مجدداً.
يذكر الباحثون في أنماط القيادة: أن القيادة من الخلف تتناسب مع حاجات الفترة الراهنة، وأنها الأكثر فعاليّة مقارنة مع الأنماط الأخرى، - ولسنا بصدد ذكرها الآن - لعدة أسباب:
1 - يتّسم الوقت الراهن بسرعة التغيّرات، والابتكارات، وهي في معظمها ناتجة عن عمل جماعي، وليست أعمالاً، ورؤىً فرديّة.
2 - تحديّات الحاضر، والتنافسيّة بين الشركات، تحتّم على الشركات صياغة رؤى، وأهداف يتبنّاها كل عضو في فريق العمل، فإسقاط رؤى، وأهداف على الفريق يؤدي إلى ضعف الأداء، والخسارة أمام المنافسين.
3 - القيادة من الخلف تُشعر كل عضو في الفريق بأنّه مسئول، وقائد، ولديه مساحةً جيّده من الحريّة في فكره، وعمله، وهذا يتناسب مع روح العصر، والفكر البشري المعاصر.
4 - نتيجةً لحريّة الحركة، والفكر، تتوسّع دائرة التطوير، والإبداع، وينعكس ذلك على المنتجات.
5 - يشعر الفريق أن القائد جزءٌ من الفريق، وليس رقيباً عليه، حيث أنه لا يمارس سلطة الكرسي إلا إذا استدعته لذلك ظروفٌ طارئة، كالخلافات بين أعضاء الفريق، أو انحراف مسيرة الفريق عن الرؤية، والأهداف.
لممارسة هذا النوع من القيادة هناك سمات، يجب أن يتحلّى بها القائد، وعدم الاتّسام بها يؤدي إلى نتائج عكسيّة، وسنحاول أن نذكر اهمّها هنا، من وجهة نظرنا:
- التواضع: تستلزم القيادة من الخلف، التواضع في شخصيّة القائد، وأن يكون ذلك خُلُقاً فيه، لا تخلّقاً. ليس من السهل أن يلتزم القائد بالتصرّف كعضوٍ في الفريق دون أن يستخدم سلطة الكرسي، إلا عند الضرورة، فلو اُستخدمت هذه السلطة أكثر من اللازم، سينتج عن ذلك فقدان روح الفريق، والحماس، والمثابرة المنشودة.
- نكران الذات: القيادة من الخلف تستلزم أن يكون القائد مدركاً، ومحبّاً، وساعياً، للمصلحة العامة، لا المصالح الضيقة، فهو يرى أن العمل، والنجاح، يأتيان من عمل الفريق، وأنه مكلّفٌ، وليس مشرّفاً، فلا يهمّه تلميع صورته، في مقابل نجاح فريق العمل، وتحقيق الرؤى، والأهداف.
- الكرم: يعطي القائد فريق العمل عوائد النجاح، ولا يحتكرها لذاته، فهو يرى أن النجاح ملك الجميع، وصُنع بأيدي الجميع.
- إحساس كبير بالمسئوليّة: لا يتخلى القائد عن كونه المسئول الأول في حالة الفشل، إذ أنّه يرى نفسه مسئولاً عن مسيرة الفريق لتحقيق الأهداف، فعند الفشل، يتحمّل المسئولية ولا يعزو الإخفاق إلى الفريق، أو بعض أعضائه.
إننا نرى في القيادة من الخلف نمطاً قياديّاً، جميلاً، وفعّالاً، يمكن تبنيّه في المؤسسات، والشركات، وكذلك يمكن تبنّيه في إدارة شئون الأسر، والعوائل، والأنشطة الاجتماعيّة، لأنه يزيد من قوة الترابط، ويفسح المجال واسعاً للمشاركة، والإبداع، وعند هطول المطر يغاث به الجميع.
أخيراً، أود أن ألفت النظر إلى أن هذا النمط من القيادة، هو النمط الذي مارسه أغلب المصلحين العظماء عبر التاريخ، فمعظمهم لم يمتلكوا مراكز إداريّة، بل كانوا أصحاب رؤىً، وحكمة. وكان جلّ همّهم صلاح الفرد، والمجتمع، والمصلحة العامّة، ومن هذا نستطيع أن نستنتج، أن ممارسة هذا النوع من القيادة لا تستوجب تعييناُ، وإنما إدراكاً، وتحمّلاً للمسئولية، ويمكن لكل فرد أن يمارسها من موقعه، في بيته وأسرته، وعائلته، ومجتمعه.