السلسلة الأقوى
الحلقة الأضعف برنامجٌ تلفزيونيٌ شهير، انتشر على مستوى العالم، وهو عبارة عن مسابقة يتنافس فيها المشاركون بالتوالي، عبر الاجابة على أسئلة متنوعّة، وتتوالى الأسئلة، وكذلك الإجابات، ويخرج من المسابقة من يخطئ في الإجابة لكونه الحلقة الأضعف، وهكذا تستمر المسابقة حتى لا يبقى إلا مشارك واحد، فيفوز بالجائزة. كنت أحب أن أمارس هذه اللعبة مع عائلتي خصوصا عندما نكون سائرين بالسيارّة في طريق طويل، فبدلاََ من أن يملأ السيارة ضجيج التنافس الأخوي بين الأطفال، ننعم بالهدوء وإشغال الذهن بما هو مفيد. كانت لعبتنا تقوم على عملية مضاعفة الأرقام، فمن يأتيه الدور يضاعف الناتج الأخير لسلسلة المضاعفات. كنت أفوز في بادئ الأمر، ثم صرت أخسر مؤخراََ!
واقعاََ، الحلقة الأضعف كمفهوم مطبق أيضاََ في ألعاب اخرى، وإن لم يتم ذكره. لنأخذ على سبيل المثال، مباريات كرة القدم؛ قبل أن يتواجه أي ناديين في مباراة، يدرس كل مدرّب الطرف الآخر، ويحدد مكامن القوة، ونقاط الضعف فيه، ويضع الخطة المناسبة حسب ما هو متوفر لديه من اللاعبين للفوز بنتيجة المباراة. يلتقي الفريقان، ويفوز غالباََ الفريق، الذي وضع خطة مناسبة بتحصين الحلقات الأضعف في فريقه، واستغلال الحلقات الأضعف في الفريق المقابل.
الفارق بين لعبة الحلقة الأضعف في المسابقات الفرديّة، وتطبيق مفهوم الحلقة الأضعف في المنافسات الجماعيّة، أنّ في الأولى يكون الفائز واحداََ، والبقية خاسرون، أما في المنافسات الجماعيّة، فمن يفوز، هو صاحب السلسلة الأقوى المتكوّنة من ترابط حلقات أعضاء الفريق.
في الحياة، نلاحظ أن لعبة الحلقة الأضعف تتكرر كثيرا. مثلاََ، يتنافس الطلبة على القبول في الجامعات، ويتم قبول عدد معيّن منهم فقط، واستبعاد آخرين بناء على ما تحصّل عليه الطلبة من درجات في اختبارات قياسيّة معيّنة. كذلك نجدها في عمليّة التوظيف، فكل مؤسسة، أو شركة تقوم بفرز المتقدمين، وتقييمهم، وتستبعد الحلقات الأضعف إلى أن تصل إلى مبتغاها، وتعرض وظيفة للفائز. أيضا نجد لعبة الحلقة الأضعف تمارس عندما تمر المؤسسات، أو الشركات في ضوائق اقتصاديّة، وماليّة، فيلجأون أحياناََ إلى استبعاد بعض الموظفين؛ إنهم يستبعدون الحلقات الأضعف.
من هذا كلّه نصل إلى حقيقة، وهي أن الحلقة الأضعف معرّضة دائماََ للاستبعاد من الفرص، وللتخلي عنها، عندما تتأزم الأمور، وأنّ السبيل الوحيد لتفادي هذا، هو أن لا يكون الفرد حلقة ضعيفة، بل حلقة قويّة لا يمكن الاستغناء عنها.
عندما نفكّر من زاوية المجتمع، يكون الأمر مختلفاً تماماََ، إذ لا يمكن للمجتمع أن يفاضل بين أفراده، يُبقي بعضهم، ويستبعد آخرين، أو أن يستبدل بعض اللاعبين كما في كرة القدم، فالمجتمع مكوّن واحد، وكل أفراده شركاء فيه؛ أي أن المجتمع كسلسلة نادي كرة القدم، حلقات مترابطة متأثرة ببعضها البعض، وأن قوة المجتمع تنخفض كثيراً، نتيجةً لضعف مكوّناته الأقل قدرة، والأكثر حاجة. لتقريب الفكرة، عندما أخرج للمشي مع ابني الصغير، أو مع أبي المتقدّم في السن، فإن سرعتي ستُحدد بسرعتهما، لا بسرعتي أنا. وعندما يشرح المدرّس الدرس لتلاميذه، فسيكون شرحه حسب قدرة أقل الطلبة في الصف استيعاباََ.
هذا الفهم لتقييم المجتمعات معمولٌ به فعلاََ على مستوىََ عالمي. خذ على سبيل المثال بعض المعايير التي تستخدم لقياس مستوى المجتمعات في مجالات متعددة: الحد الأدنى للأجور، نسبة البطالة، نسبة الأميين، نسبة المصابين بالسمنة وغيرها. كل هذه المعايير تركّز على الحلقات الضعيفة، لأنها مرآه لحالة المجتمع ككل، ومرآة لقوة السلسلة المجتمعيّة.
كتبنا في مقال سابق، ”1+1 لا يساوي اثنين دائما“، عن عامل الإنسان الحسابي، وعن عامل التعاضد في المجتمع، وهنا نقول: أن التعاضد يحتّم على الفرد، والمجتمع أن يعمل على تقوية الأفراد الأقل قدرة معنوياََ، وفكريّاََ، وماديّاََ وغيرها، لأن قوّة أخي قوّة لي، وقوّتانا معاً قوّة لمجتمعنا، وقوّة المجتمع قوّة لنا؛ كلما ازدادت قوة حلقاتنا الأضعف، كلما انعكس ذلك إيجاباََ على قوة المجتمع ككل، فكريا ً، ومادياََ، ومعنوياََ، وروحياََ، وأصبح المجتمع أكثر قدرة على الإنتاج، والصمود في زمنٍ تكثر فيه التحدّيات.
إنها دعوة نطلق عليها ”لا للحلقة الأضعف، ونعم للسلسلة الأقوى“ ونرى فيها تكريساََ لما روي عن نبيّنا الكريم ﷺ: ”مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى“.