لابد من «شحرور» وإن طال السفر!
حينما طلب هيرون ملك سرقوسة من أرخميدس أن يتأكد من نوعية ذهب تاجه بدون أن ينزع من التاج شيئًا، أخذ أرخميدس في البحث عن طريقة كما طلب منه الملك. وذات مرة وعندما كان أرخميدس يغتسل في حمام عام، اكتشف أثناء جلوسه في حوض الحمام أن كل جسم يُغمس في الماء يفقد من وزنه بقدر ثقل الماء الذي يزيحه حجمه. وقتها خرج أرخميدس من الحمام عريانًا فرِحًا وهو يصيح، ”يوريكا، يوريكا“ أي ”وجدتها، وجدتها“. وتبيّن أن التاجر قد غش الملك في تاجه؛ ولذلك فقد كانت النتيجة هي أن التاجر فقد رأسه. هكذا خرج محمد شحرور عندما وجد ضالته واكتشف، كما اعتقد هو، حقيقة طالما انتظرها. ومن شدَّة فرحه وعظيم دهشته، أراد أن يشرك الآخرين في فرحه، فعرَّى تلك الحقيقة التي توصل إليها تمامًا وأضاءها بشكل فاضح وأخرجها للناس عاريةً مضاءةً تمامًا كما توصَّل إليها. ولكنَّ تلك الحقيقة العارية أزعجت عيون الناس التي لم تتعود على رؤية الأشياء عارية والنظر المباشر إلى عين الضوء الباهر. ومما زاد الأمر سوءًا أن تلك الحقيقة التي توصل إليها قوَّضت كثيرًا من المسلَّمات والثوابث الدينية الإسلامية التي ترسَّخت وتجذَّرت في عقول أولئك الناس. فكانت ردة الفعل أن أولئك الناس جردوه من ثوبه الفكريّ والعلميّ بالنقد والنقاش الموضوعيّ تارة وبالتهم وبالسباب والشتم تارة أخرى.
لاشك أن محمد شحرور قلب الموازين وغرد خارج السرب بما جاء به بكل جدارة، حتى أن بعضهم عدَّ تغريده نشازًا ومزعجًا وقادمًا من حناجر الشياطين، فيما عده آخرون صوتًا ملائكيًا نزل من السماء. وإذا ما تصفحنا التاريخ؛ فإننا سنصطدم بشخصيات مثيرة وقلقة، وإن كانت قليلة جدًا نسبيًا، اعتبرهم معاصروهم من عامة الناس ومن العلماء أيضًا بأنهم أبعد ما يكونون عن العلم وأقرب ما يكونون من الهرطقة والهلوسة. ومن الملاحظ أن حدَّة ردود الأفعال وقسوتها تجاه مثل تلك الشخصيات تزداد متى ما كان الأمر يمس الدِّين الذي يعتبره البعض، لأسبابٍ ليس هنا محلها، ملكًا خاصًا لهم وحدهم وأن المساس به هو مساس واعتداء على ملك شخصيّ بحت. فتجد أن بعض أولئك الناس يغضب ويتصرف كما لو أنَّ أحدًا قتل أحد أبنائه أو بناته الذين هم من صلبه وأنه هو المسؤول الوحيد عن الأخذ بثأره أو بحقه ممن قتله. وفي الواقع، فإن هذا الشعور، الشعور بملكية الدين الشخصيَّة، لا يزال حيًّا في الدول العربية، في حين أنه في غيبوبة في أغلب دول الغرب والشرق الأقصى وبعض الدول الإسلامية غير العربية أيضًا. ففي هذه الدول خفَّت حدة الأصداء للأفكار المختلفة والغريبة في كل المواضيع والأمور، وأصبح الاختلاف فيها أكثر قبولًا بشكل عام لأسباب لا مجال لذكرها هنا.
ولكن، وللحقيقة، فإن محمد شحرور صرَّح وأفصح منذ البداية عن منهاجه الذي سيعتمد عليه في كل كتاباته والذي سيكون مختلفًا كلية عن المناهج السابقة كما ورد في مقدمة أول كتاب صدر له ”الكتاب والقرآن - قراءة معاصرة، ص 42 - 45“. ولذلك؛ فإنه لن يكون مستغرَبًا أبدًا بأن يتوصل إلى ”هذه النتائج التي لا توجد في كتب السلف“ ص42. وقد نستطيع تلخيص فلسفة منهاج شحرور في أنه يؤمن بالزمن وسيرورته وتأثيره الكبير في كل شيء «التطوُّر والصيرورة». فهو يؤمن بأن زمن الصحابة والتابعين ومن تبعهم، السلف، قد مضى وانقضى وأن كل ما تركوه من فكر وعلم هو من ”التراث“ الذي لا يحمل أية قداسة. فكما أن السلف ”رجال، ونحن رجال“ وإنَّ ما كان عندهم من العلوم وأدواته قد انتقل إلينا، وأنَّ ما عندنا من العلوم الحديثة لم يكن عندهم. فما عندنا فعليًا هو ما كان عندهم وزيادة، ولذا؛ فلا يجوز بحال من الأحوال أن نستخدم علومهم وأدواتهم على أنها من المقدسات التي لا غنى عنها ونهمل علومنا وأدواتنا لتشكيل فهمنا الخاص للإسلام ومقدساته. فإذا كانت للسلف نسختهم أوتجربتهم الخاصة من الإسلام بحسب ما لديهم من علوم، فإنه لابد وأن يكون لدينا نسختنا أو تجربتنا الخاصة من الإسلام بحسب ما لدينا من علوم وأدوات جديدة ودقيقة صنعها الفارق الزمنيّ. ولاشك أن للناس تمام الحق طبعًا في أن ترفض منهاج شحرور وأن تحاكمه وتحاكم مَن يطبِّقه، شحرور أو غيره، في مدى دقته وصرامته في تطبيقه، ثم أخيرًا في النتائج التي تمخضت عن تطبيقه لذلك المنهاج. وهذا ما قام به يوسف الصيداويّ في كتابه ”بيضة الديك“ ومنير الشواف في ”تهافت القراءة المعاصرة“ وشوقي أبو خليل في ”قراءة علمية للقراءات المعاصرة“ ومحمد سعيد رمضان البوطي في مقاله ”الخلفية اليهودية لشعار قراءة معاصرة“ وغيرهم الكثير.
ومهما تباينت وتناقضت الآراء حول ما كتبه محمد شحرور، إلا أنها تتفق جميعًا بأن ما ترك من إرثٍ فكريٍّ كان مختلفًا تمامًا عما هو مألوف ومطروح في الساحة الفكرية عن الدين الإسلاميّ. فبخلاف ما يطرحه العلماء التقليديون المعاصرون مما يتشابه في جوهره مع ما طرحه أسلافهم، فقد قفز هو قفزة كبيرة وارتقى مرتقًا صعبًا عندما طرح أفكاره التي تخالف ما ترك السلف مخالفةً تامة. ولكن، ومهما اختلفتَ مع شحرور في بعض ما طرح، فإنك لا تستطيع أن تتجاوزه دون أن تتوقف عند مشروعه الفكريّ، إن صح أن نسميه كذلك، لتتأمله وتحلله وتفكر فيه.