كوكب الصفاء والنقاء
في وهم البعض، أنهم يعيشون في كوكب الصفاء والنقاء الذي لا يطأه إلا الأعف من الناس والصادق المصدق والطهر الطاهر، الذين إذا وطأت الأرض أقدامهم إنتشت فخراً وإذا مروا بالشجر إنحنت إجلالاً لملائكيتهم وسبحت بحمدهم، ولا تطير الطيور من فوق رؤوسهم ولا شيء يعلو عليهم. عرقهم المسك وكلامهم بلسم الجروح. وأن في هذا الكوكب بحر واحد؛ بحر من خطايا الناس وذنوبهم، وأن هؤلاء الناس الملائكيين يجوزون البحر بسفينة الصدق والحق والحقيقة. كذلك يحيط بهذا الكوكب مجموعة من النجوم التي أُعدت لرجم البشر الذين يريدون أن يتعدوا على مقامهم الجليل. فأين هم وأين كوكبهم؟
مشكلة واحدة، هي أن الكلام السابق غير صحيح ولا وجود له إلا في أذهان تلك الشريحة من الناس. الذين في واقع الأمر هم فاشلون في الحفاظ على علاقات الناس سواءً كانوا أرحام أو غرب. وممّا يحير اللبيب أنهم ناجحون في كسب قلوب الناس ولكن ليس لفترة طويلة. لأن لهم مجموعة من القوانين الإفتراضية، فمن تعداها فالويل كل الويل له. ليست تلك القوانين مكتوبة بل ليست ثابتة ايضاً فهي - القوانين - تتحرك إتساعاً وضيقاً تبعاً للهوى.
الحق يقال، معظم هذه الشريحة هم من الناس البسطاء والجذابون ذوي الشخصيات المرحة. وهم سريعون الإنفعال والتفاعل وأصحاب همة عالية وخدمة للناس. ولأنهم سريعين الإنفعال فهم يتبعون عواطفهم قبل عرضها على عقولهم. فيحكمون على الناس بأسرع ما يكون. فإذا لم يكن لديهم صوت الحكمة ليهدئ من تصرفاتهم. فستستمر فوضى العلاقات الإجتماعية.
أكثر خطأ يقعون فيه هو أنهم يعيشون في وهم «الخيانة»، وذلك راجع إلى القوانين التي افترضوها والتي لابد لكل إنسان اتباعها، من غير أن يعرف الآخر ذلك.
كل دعواي لهم بأن يجعلوا مجالاً لإمكانية صدور الخطأ منهم. وإن كانوا يعتقدون ألّا مجال للخطأ فيهم، فلا أقل ليحاسبوا أنفسهم:
لماذا لم تدم صداقة الطفولة؟
لماذا تركتني بنت خالي؟
لماذا أخي يرفضني؟
لماذا أغلق جاري الباب في وجهي؟
لماذا زملائي في العمل تركوا التعامل معي؟
لماذا طلقني زوجي؟
وأحداث من هذا النوع. إذا كان الخطأ كله يتحملونه الآخرون وأنا لم أستطع الحفاظ عليهم.؛ إذاً أنا فاشل في الحفاظ على الأصحاب.
لنحاسب أنفسنا كما أُمِرنا وكما وجهنا أهل بيت الطهارة وسيدهم الرسول الأعظم صلوات ربي عليهم أجمعين. كما يروى عن الإمام الكاظم : ”ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل خيرا استزاد الله منه وحمد الله عليه، وإن عمل شيئا شرا استغفر الله وتاب إليه“. الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام رمز التقوى والبر فمن أراد أن يرفع نفسه إلى هذا المستوى فلابد أن يتصرف كما يتصرف الإمام حتى يكون من أتباع الإمام. فإنه وصف نفسه ومن معه بمحاسبة النفس اليومية وإذا رأى فيها حسن طلب الزيادة من الله وإن رأى السيء تاب إلى الله وأصلحها.
وهذا المعنى منقول عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله: ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر“. من كان يؤمن بالله ويرجو اليوم الآخر يعلم أن لكل نفس يوم تعود فيها إلى بارئها وتحاسب، وقد يوكل الحساب إلى ذات الشخص ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾.
الإنسان الناجح دائماً ما يسعى للمزيد ولا يرضى بما وصل له من خير. فإنه يراه قليل وإن كثر، كما يقول الإمام السجاد : ”.... واستقلال الخير وإن كثر..“ فمن إعتاد على فعل الخير وكانت نعتاً له يكون أكثر المنتقدين وبشدة على أنفسهم فإنهم يرون مستقبلهم وراءهم، فقد بنو على إنجازات عظيمة فلا يريدون هدمها بإقلال أو تقصير. ومن ناحية أخرى يرون منجزاتهم بالنسبة لهمتهم قليلة فيسابقون الزمان للمسارعج في الخيرات.
فهؤلاء أنبياء الله يحاسبون أنفسهم وهم أعظم الخلق في مقام الطهر والصفاء، وأنهم منزهون وكل سعيهم خالصاً لوجه الله تعالى. فلا يرجون الجزاء من الناس ولكن ينتظرون الجزاء ممن لديه خزائن السموات والارض. فإن كانت أعمالنا وأعمالهم كالمرءة أيهما أكثر نصاعةً وصفاء؟! ولكن نجد أن نبي الله يونس يقول: ﴿وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ وذاك نبي الله آدم ايضاً ﴿ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى﴾.
في كل يوم صباح نثبت وجلّ القلوب من خوف المجهول وما يستره المستقبل عنا، فمع بزوغ الشمس نرقق أصوتنا بما تعلمناه من إمام الموحدين علي بن أبي طالب : ”إلهي قَلبي مَحجوبٌ، وَنَفسي مَعيوبٌ، وَعَقلي مَغلوبٌ، وَهوَائي غالِبٌ، وَطاعَتي قَليلٌ، وَمَعصيَتي كَثيرٌ، وَلِساني مُقِرُّ بِالذُّنوبِ، فَكَيفَ حيلَتي يا سَتَّارَ العُيوبِ“ هذه كلمات كان يرددها بنفسه فإن كان أمير المؤمنين يرى نفسه مقصراً في جنب الله فما نحن؟ فهل ياترى صرخاتنا في مساء كل خميس كصرخته ؟ عندما يقول: ”وَقَد أتَيتُكَ يا إلهي بَعدَ تَقصيري وَإسرافي عَلى نَفسي مُعتَذِراً نادِماً مُنكَسِراً مُستَقيلاً مُستَغفِراً مُنيباً مُقِرّاً مُذعِنا مُعتَرِفاً، لا أجِدُ مَفَرّاً مِمّا كانَ مِنّي وَلا مَفزَعاً أتَوَجَّهُ إلَيهِ في أمري، غَيرَ قَبوُلِكَ عُذري وَإدخالِكَ إيايَ في سَعَةِ رَحمَتِكَ“.
من بعد ذلك لابد أن تكون هنالك خطة تساعد على الخروج من دائرة التظني والتمني، خطة تكون هي خارطة طريق للخروج من دائرة المأساة ودوامة وهم الخيانة. خطة ذات أهداف تكون أساس الحجر لبناء بنيان شامخ أو صرح من النجاح الإجتماعي. وو هي كما أعدها الإمام علي بن الحسين :
- إبدلني من بغضة أهل الشنأن المحبة
- ومن حسد أعل البغي المودة
- ومن ظنة أهل الصلاح الثقة
- ومن عداوة الادنين الولاية
- ومن عقوق ذوي الأرحام المبرة
- ومن خذلان الأقربين النصرة
- ومن حب المداريين تصحيح المقة
- ومن رد المداريين الملابسين كرم العشرة
هنا يكون النجاح الحقيقي ويراه الإنسان في حلاوة العيش عندما تنبسط العلاقات الإجتماعية خصوصاً التي تكدر ببعض الشوائب إذا تبدلت إلى اضدادها. لا يتوقع ممن يسعى للإصلاح أن تنتقل العلاقات بعصاً سحرية إلى نقيضها من بغض إلى محبة، بل لابد من وجود مراحل إنتقال. كما أن وجود الحالة - البغض أو الحسدأو.. - لم توجد بدون مبررات ودوافع إنتقالية. فلعلِ أنا المذنب في حسن تصرفي ولم أراعي بعض التصرفات أو الكلمات التي لم أراقبها أثناء القول.
وتل هذه الخريطة مجرد رسم بياني مالم توجد الأدوات لتحويلها من القوة إلى الفعل. وهنا أنصح هؤلاء الأحبة المعنين بتباع إسلوب التمارين العقلية المعروف في علم النفس ب «EMDR» وهي «إعادة معالجة الحساسية بحركة العين» بإختصار وإجمال: في حالة حضور الأفكار المؤذية من مواقف أو أشخاص يحرك الشخص عينيه من جهة إلى أخرى حتى تتلاشى تلك الصورة، أو يربت - يضرب بخفة - على فخذ وينتقل إلى الآخر بسرعة ثابتة. هذا التمرين يتطلب إشراف مختص إذا كانت الحالة مرضية من أمراض الإضطراب النفسي، لكن في موضوعنا هذا بإمكان الإنسان التعامل مع مظنة خيانة الناس لهم بهذا الإسلوب. فبعدما يراجع نفسه ويعترف بأخطاءه ويعمل على خطة مكارم الأخلاق فليعمل على هذا التمرين، أن لا يتخذ قطع العلاقات حلّاً له ومن ثم يعمل على تطبيق التمرين التالي: الأرض - الهواء - الماء - النار
- الأرض: إذا خلى مع نفسه وقبل أن يسرح بخياله فيما جرى من إختلاف مع الأشخاص، هنا يضع قدميه في الأرض. فيتصور نفسه أن قدماه في الأرض وكأنما لهما جذور تغرس في قاعها. حتى تأمن له الثبات.
- الهواء: يسترخي ويملئ رأتيه بالهواء ويدع الأوكسجين يصعد إلى الدماغ. وهي ما تعرف بطرق الإسترخاء وتمارين النفس. وهي متوفر على مواقع الانترنت.
- الماء: في حالة الإضطراب والضغوط النفسية مسامات الإنسان تغلق وينشف الفم من الماء وذلك يكون عن طريق «النظام السيمبثاوي». في يفضل إحضار قطعة شوكلاتة أو ليمونة فمن خلال النظر يبدأ اللعاب بالسيلان، فإلميفرز اللعاب فبإمكانه إستخدام الماء.
- النار: والمقصود بالنار هي الشعلة المضيئة لعالم الخيال هي قبس النار الذي يضيئ ظلمة الليالي. وهذاه النار يقصد بها الإضاءة لخيال الحلول التي اظلمت بسبب الإنفعالات فيبحث عن حلول لتلك المشاكل.
في النهاية، أدعو نفسي وإياهم لا نتعجل في إصدار الأحكام، وأن نروض النفس عن الكبرياء فإن الكبرياء السبب الأول لإنفصال العلاقات الإجتماعية. فلابد من إعادة تفسير بعض الأحداث وتصرفات الناس وأن لا أعتبر الخطأ الذي يصدر من أي شخص إتجاهي، بل أراه مسيئاً له هو. وحمل تصرفات الناس على محامل الخير فإن تفسيرها بهذا المنطق وحملها بمحمل الخير يعود بالنفع علينها وعلى سلامة النفس من الإضطرابات. فإذا علمنا ذلك واستطعنا أن نضبط ذواتنا هدئت عواطفنا واستطاع العقل أن يدبر أمورنا.
وختاماً، فإن العقل الخارجي وصوت الحكمة الخارجية المتمثلة في أقرب الناس لنا هم ميزان الحق والحقيقة. فحتى لو خالفة أقوالهم أهوائنا نعلم أنها لمصلحتنا بعد العرض على عقولنا دون المشاعر. ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ* أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ﴾.