حتّى يكون الأبُ أبًا
للأبوّة معانٍ وجدانية سيّالة وأخرى حِكَميّة باصِرة، تؤسسها أدبيات بعض نصوص الحكمة الأبويّة، «وَجَدْتُكَ بعضي، بل وَجَدْتُك كُلّي، حتَى كأنّ شيئًا لو أصابكَ أصابني».
إنّنا لا نجانب الصواب إذا قلنا: إنّ معادلة الأبوّة في واقع الأبناء مفهوم يتجلّى خلاله محتوى شامخ من الاتّباع الذي لا يُمَلّ والإبداع الذي يتأصّل.
لو رجعنا إلى حقيقة الأبوّة في حياتنا، لوجدنا أنها تمثّل ضرورة في حتميات وعينا بقدر كبير، وفي أعماق لا وعينا بقدر أكبر.
يُلحظُ ذلك حين يفتقد الأبناء وجودًا مؤثّرًا لآبائهم في أيّ مرحلة من فترات أعمارهم، فالأب قائد رشدهم وكمال البهاء في شخصياتهم وكتاب التجليات لطاقاتهم وتفاعلهم الإنساني والمعرفي.
إنّ غياب الأبّوة الزاخرة بالمعنى القيمي والتربوي الرحيم، يشكلّ خطرًا قد تكاثرت صوره، وراجت على شاشات أجهزتنا أخباره.
وأنّى لأبّ، يختزل حبّه وزاده التربوي لأبنائه في الرعاية المادّية، أن يكون أبًا حاضرًا فعليًا أو موجودًا مؤثرًا في واقع الأبناء، فضلًا عمّن يقصّر في الأمرين.
بعض الآباء يعيشون على هامش الدور الواجب عليهم تجاه أبنائهم، ممّا يُنشئ علاقة غير مستقرة أو متوازنة عائليًا، حيث تتراجع الصحّة النفسية في الوسط العائلي كاملًا بافتقاد المحتوى العلاقاتي الحميم، إذ الأب الشفيق هو «إمام» المحبّة العائلية ومعراج الأمان الأسريّ الحكيم، وبضمور توهّجه المشاعري فقر عائلي يجتاح تمتمات الأنفاس حتّى وإنْ كان ثريًّا بالمقاييس المادّية.
الآباء الذين يقضون أوقاتًا أطول مع أبنائهم في المنزل، تتفوق قدرات أبنائهم الذهنية، بمقاييس الذكاء العقلي «IQ»، على نظرائهم ممّن يفتقدون مثل هذا الحضور الأبويّ والرعاية البيتية.
وهذا ينطبق على مهاراتهم التفاعلية مع المجتمع، بالمعنى الوجداني للذكاء «EQ»، فالأب ملهِم النجاح النفسي والذهني لدى أبنائه.
إنّ ذلك ليس خرافة أو احتمالًا، وإنما هو ما دلّت على تحققه الدراسات التربوية المعاصرة التي وجدت أنّ الرعاية المبكرة للطفل بتنمية مهاراته الذهنية والنفسية، تتيح فرصًا كبيرة للنجاح المستقبلي في التحصيل العلمي والوظيفي، في مسار متسارع ومتقدم.
إحدى تلك الدراسات عن دور الأب في حياة الأبناء سألت الأم عن تقييمها لحضور الأب في واقع أبنائه ونشاطاتهم المنزلية، من جهة مشاركتهم في القراءة ومنحهم وقتًا للترفيه والتنزّه، وتطوير الشخصية الإنسانية في وجدانهم.
الدراسة ذاتها أشارت إلى حجم التدمير الذي تتعرض له شخصيات الأبناء الذين يعانون نتيجة انفصال الوالدين، وتوصي بضرورة إيجاد حلول لكثير من قضايا التباعد بين الزوجين، نشأت لأسباب بسيطة، ولكن موجات الغضب أو الانفعال الشاطح إضافة لغياب صوت الحكمة والإصلاح، زاد المشكلة تعقيدًا، وتسبب في تفكك أسريّ فادح.
بينما تشير الدراسة، أيضًا، إلى أنّ الأب الذي ينجح في قضاء أوقات تفاعلية وإيجابية مع أبنائه، تتهيأ له نجاحات حتى في عمله الوظيفي، بسبب تنامي المعاني المبهجة حوله.
إنّ الأبناء هم الجزء المعادل للكلّ، وكلّ خير ينالهم، فيه سعادة الآباء والأمهات والعائلة، والطريق إلى ذلك يبدأ حيث يكون الأبُ أبًا.