شهر العافية: 25 - طغيان اللاشعور «ط»
بسم الله الرحمن الرحيم -... «48» أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا «49» انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۖ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْمًا مُبِينًا «50»... - صدق الله العظيم - النساء.
أكثر اختياراتنا تتم مبنية على اللاوعي؛ لكننا لا نشعر، حتى في التفاصيل الدقيقة التي نهملها مثل الاسم. الشركات والمحلات التجارية ذات الاسم الصعب في النطق عادة ما تخسر قُبَالَة الأسماء السهلة والمستساغة. تخيل تذكّر اسم ”توت عنخ آمون“ تجاه ”علي“. الأسماء الصغيرة والسهلة أفضل للمتلقي وينحاز لها لا شعوريا.
لاختبار تأثير اللاشعور على الاختيار، قام باحثون بتجربة في أحد الأماكن التجارية. حينما شغَّل المتجر موسيقى فرنسية، اتجه أكثر الناس لشراء البضاعة الفرنسية. وحينما جاء الدور على الموسيقى الألمانية، اشترى الأكثرية البضاعة الألمانية. عندما سُئِل المشترون عن السبب لم يعلموا، وعندما قيل لهم إن السبب كانت الموسيقى، رفضوا التصديق.
ليس فقط الشراء يتأثر، الناس تميل لأصحاب الأشكال والأصوات الجميلة بدلا من المواضيع وقيمتها لمن يتكلم. الشكل يعطي إيحاءات مختلفة، ولذلك صورة المُرَشَّحِ تعطي انطباعات وإشارات لاشعورية لانتخابه. لذلك، في الأفلام التلفزيونية، عادة ما يكون البطل طويل وجميل الشكل بينما يتم اختيار أشكال مخالفة للأشرار أو القيام بتشويههم عمدا لينفر المشاهدون منهم.
في عام 1960م وأثناء الانتخابات الأمريكية والمنافسة بين ريتشارد نيكسون وجان كندي في مناظرة حية على الهواء من خلال التلفزيون والراديو. حينها، كان نيكسون يتعافى من التهاب حاد وظهر عليه الإعياء وكان شكله مزريا خلال الحوار. الذين شاهدوا التلفزيون ظنوا أن كندي جلد نيكسون. بينما الذين استمعوا دون مشاهدة ومن خلال صوت نيكسون الرخيم ظنوا أن أداءه كان أفضل من خصمه. فاز كندي في الانتخابات لأن أكثر الأمريكيين كانوا يشاهدون التلفزيون بينما كانت الأقلية تستمع.
البشر شكليون ويتم تسييرهم كثيرا من خلال لاشعورهم ولكنهم كثيرا ما يجادلون ويرفضون هذه الأفكار وإن دلّت عليها التجارب. في ذلك نلاحظ أن أكثر الأنبياء والأوصياء جميلو الشكل وتكون عندهم ملكة في الحوار وأصوات جهورية حتى ضج معسكر عمر بن سعد في معركة كربلاء وطلب من جيشه إسكات الإمام الحسين لكيلا يؤثر على مناصيره، وذلك نظرا لجمال وكريمزما الحسين ؛ بالإضافة إلى بلاغته وحسن أدائه وجمال صوته. الناس أحبّت الحسين ولكن الشيطان زين لهم بريق الذهب والفضة.
في الغالب، البشر لا يعلمون مدى تأثير اللاشعور على الكثير من الأمور ومنها القرارات المفصلية. تم تركيب دماغنا ليساعد الكائن على البقاء؛ كيف يتجنب الخطر، ويحصل على الغذاء، والبقاء قويا قدر المستطاع حيث يهزم كل منافسة في الغذاء والتزاوج. هكذا بُنيت الأدمغة وهكذا تطورت. وهذا يعني أننا لا نستوعب لاشعورنا كثيرا إذ لم يتم الانتباه لهذا الأمر إلا مع بدايات القرن العشرين.
اللاشعور يؤثر على الكثير من الأشياء حتى في الأماكن التي لا نتوقعها. نظرا لكثرة الأحداث البصرية والسمعية يضطر الدماغ إلى تخزين المستجدات بصورة مضغوطة بعيدا عن الكثير من التفاصيل، وعندما نحاول استرجاع الأحداث وصياغتها من جديد يبتدئ دور اللاشعور في تغطية الفراغات ومنها نخرج بقصة غير دقيقة قد اختلطت بالأماني والتصورات والميولات.
البشر يميلون إلى نوعهم؛ نحن ضد الآخرين، وهكذا يعيش الناس وهكذا يستطيعون الحفاظ على أنفسهم وهويتهم. لذلك، ولاشعوريا، يلجأ الناس لشيطنة غيرهم وتزكية أنفسهم، وفي الغالب من يكون أكثرهم كفاءة في مثل هذه الأمور يقود الجماعة. نحن كرماء جدا مع محاسننا ونحاول إظهارها قدر المستطاع بينما بخيلون جدا في رؤية محاسن غيرنا، بل في الغالب نرى مساوئهم ونستخدمها لمحاولة إسقاطهم وشيطنتهم وتزكية أنفسنا ومقارنة تلك المساوئ مع حسناتنا لكي نثبت لأنفسنا ولغيرنا أننا أفضل منهم.
و”طوبى لمن شغلته عيوبه عن معايب الناس“، وسلام الله على من قالها، والذي قال أيضا ”رحم الله من أهدى إلي عيوبي“، وهو أكثر من كان بعيدا عن العيوب. كان معلِّما من الطراز الأول. ولكن للأسف، لم يلقَ الآذان الصاغية إلى اليوم، وحتى من الذين يظنون أنهم يحبونه ويناصرونه حيث انشغل أكثرهم بتزكية أنفسهم وشيطنة الآخرين. الناس لا يلامون لأن هذا طبعهم وهذه فطرتهم وغريزتهم، ولكن من كان له معلما مثل من قال هذه الحِكم، لا يخرج من دائرة اللوم. كونوا له زينا كما قال.