إننا نمزح!
كلنا هواة، ولسنا محترفين ولا متخصصين في أي شي! فالقارئ منا لا يقرأ إلا في وقت فراغه والكاتب لا يكتب إلا في وقت فراغه أيضاً. فراغه من ماذا؟ فراغه من وظيفته الأساسية التي هي غير القراءة والكتابة والتي يقضي فيها جلَّ وقته ويعتاش منها وهي، في كثير من الأحيان، أبعد ما تكون عما يحب أن يقرأ أو يكتب فيه، فقد اختارها له - غالباً - أبوه أو أرشده إليها وفرضها عليه سوق العمل. الحاصل، إنه لا يقوم بالقراءة والكتابة إلا بحسب ما يقتضيه وقت فراغه من تلك الوظيفة، فهو، أبداً، لا يخصص وقتاً لهما بحيث لا يقدم عليهما أيَّ أمرٍ آخر. وحتى إن خصص لهما وقتاً، فإنه عادةً لا يكون ذلك الوقت كافياً ليكوِّن منه قارئا وكاتباً حقاً، وقديما قيل، ”الْعِلْمُ شَيْءٌ لا يُعْطِيكَ بَعْضَهُ حَتَّى تُعْطِيَهُ كُلَّكَ.“ وما يجعل منه ذلك الوقت الذي بذله للقراءة والكتابة إلا نصف كاتب يهدم أكثر مما يبني، ويفسد أكثر مما يصلح، وقد قيل، ”إنما يُفسد الناس نصف متكلم ونصف فقيه ونصف نحوي ونصف طبيب، هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان وهذا يفسد اللسان وهذا يفسد الأبدان.“
ولعل هذا هو السبب في أن نتاجنا الإبداعي والفكري ضئيل وسطحي. ولو كانت هناك حاجة حقيقية للقراءة والكتابة لكانت النتائج أفضل بكثير، ولكان نتاجنا الإبداعي والفكري أغزر وأعمق. الواقع، إننا في حالة ”حرجة“ من الترف الثقافي والفكري الذي لا ينم عن عمل جادٍ تحدوه حاجة ماسة تدفعنا دفعاً نحو طريق الإنتاج والإبداع. وأما عن كيفية خلق تلك الحاجات والدوافع والأهداف الحقيقية، فذلك ليس غاية هذا المقال.
وبالمثل، فإن الفنان والرياضيّ وربما كل صاحب مهنة أو وظيفة أو عمل هو أقرب إلى الهزل والمزح في فنه ورياضته ومهنته ووظيفته وعمله منه إلى الجد والإخلاص والمثابرة. فالحاجة الحقيقية، كما أشرنا، لا تزال غائبة والدافع الذاتي بات مغموراً ومقوضاً بأمور أخرى أبعد ما تكون عن الهمة والنشاط وأقرب ما تكون إلى الخمول والخنوع. وينسحب هذا الأمر حتى على نظرتنا للحياة الدنيا والحياة الأخرى فنحن نفكر في الحياة الدنيا بشكل أساس حينما نريد بناء الحياة الأخرى، ونفكر في الحياة الأخرى بشكل أكبر حينما نريد بناء الحياة الدنيا كما أشار توفيق السيف إلى ذلك في بعض مقالاته. حينها، تشعر إنَّنا ضائعون فعلاً، فلا نحن هنا ولا نحن هناك والرغبات والأهواء والهوايات والأطماع وربما كل شيئ، ما عدا الحاجة الحقيقية والهدف الأساس، تتنازعنا وتتجاذبنا وتقذف بنا في مهب الريح، والنتيجة الطبيعية لذلك هي أننا نعود صفر اليدين فلا نحن إلى هؤلاء ولا نحن إلى هؤلاء. وربما كان أبوالعلاء المعري يشير إلى وضعنا ويتبرأ منه حينما قال:
فيا موت زرْ إنَّ الحياة ذميمة ويا نفس ”جدِّي“ إنَّ دهرك ”هازل“
وعلى العكس تماماً من هذا الوضع، تجد أن أؤلئك الذين هم في حاجة حقيقية لإنجاز شيئ ما، ولديهم دوافع قوية لتحقيق هدف معين يكرسون جل وقتهم وجهدهم لإنجار وتحقيق ذلك الهدف وتلك الغاية. وبالتالي، فإنهم ينالون بغيتهم ويصلون إلى هدفهم المنشود في أسرع وقت وبأقل الخسائر. والحصيلة النهائية هي غزارة ووفرة وعمق في الإنتاج في شتى المجالات، فتجد لديهم المحترفين في الكتابة والفن والرياضة والعلم والفكر وغيرها من المجالات الإنسانية الأخرى.
لست أدري متى نأخذ بنصيحة المعري ”يا نفس جدِّي“، ولكن أرجو أن يكون ذلك عاجلاً وليس آجلاً!