نوستالوجيا رمضان في السعودية
ما زلتُ أعيش شعور دهشة ممتزجة باشتياق؛ أرى الأشياء القديمة التي تركتها وكأنني ألتقي بها للوهلة الأولى.
نعم ألتقي بها، أستنطق الجمادات، أُذكرها إياي وأنا على يقين بأن ذاكرة الجمادات أوفى من ذاكرة الأحياء.
رمضان يستدعي كل تلك المشاعر، يُجرعك سُمَّاً نستولوجياً يكاد يُمزقك اشتياقاً.
رمضان يُصفد القطيعة ويطلق سراح الوصل، مصطحباً قوس قزح ليُلون العتمة. لا ليل في رمضان، يُسابق الضياءُ بعضه بعضا. تتضوَّع السكك عبق الذكريات، وتنبعث الحياة في قسماتِ وجوهٍ مُعتقة بالحب والإيمان، وأصوات المآذن تُبلغك السلام، تُحفك طمأنينة، تؤنس وحشتك، تحيل سكون الليل إلى ترانيم القرب الإلهي؛ ما الجوع والظمأ إلا عتبة على مدارج السالكين، لحظة ارتقاء الروح من وعاء الجسد لتحلق في سماء الماوراء.
مدد يا دهاليز الحي وجدرانه عن ذكريات الطفولة، عن صومي الأول، عن إفطاري الأول، عن إصرار أمي «الصغار يصومون إلى العصر فقط».
رمضان يُعيدنا إلى ذواتِنا، ينتشلنا من غياهب العولمة، ويضبط تسارع الزمن، ويلقي علينا تعويذة الأصالة ليحيي بنا روح الإنسان الفطري، فتحط رحالنا في بيوتات الآباء والأجداد ومجالسهم، نفتش عن صورٍ قديمة تجمعنا، عن تذكار يروي لنا قصة، عن وجع يثير على الشفاه بسمة تشوبها دمعة مذروفة على الوجنتين.
نبحث عن الصحب، عامل في حقل نفط، جندي على الحدود، مبتعث في غربته، سجين خلف القضبان، مريض في مشفى، ميت في قبره.
أجدني عن ذكرياتهم أتحدث عن حاضرهم أسأل، أين كنتم وإلى أين صرتم.
أتذكرون، هنا لعبنا، هنا تشاجرنا، هنا أثر جرحٍ تركه صديقٍ على معصمي، وهناك تعالت أصواتنا كلانا متمسكٌ برأيه، وبجانبه أول أبيات العشق كتبتها.
في رمضان، نتسابق نحو مائدة الإفطار بشقاوة الصبية، هل كبرنا على الشقاوة؟ أم ما زلنا نتحين الفرص لنشاغب بخبرة الشقي. أراني طفلاً يستمتع بطفولته، لا يأبه بشعرةٍ بيضاء نبتت على شاربه. منظر الأطفال في شوارع الحي يستدعي بقايا الطفل الذي يستوطن أعماقي.
وماذا بعد يا رمضان، ما الذي تبقى مني ولم تقاسمني إياه، ألقيت بي على أرصفة مُشبعة بحنين واشتياق يأسرني إلى أن أبقى أعيشُ تفاصيلك بصمت. مضى نصفك وإلهام اشتياقك لم ينقطع، يكفيك لهفة ملامحي إليك، وضجري كلما اقترب الرحيل أيها الضيف الجميل.