إلى أين وصلت نظرية الثقافة عند مالك بن نبي؟
يرى الأستاذ والمفكر زكي الميلاد أن كتابه «المسألة الثقافية.. من أجل بناء نظرية في الثقافة» الصادر في طبعته الأولى سنة 2005م، جاء متمما لكتاب «مشكلة الثقافة» لمالك بن نبي الصادر في طبعته العربية في القاهرة سنة 1959م. بهذا القول يفتح الميلاد هامش العلاقة والمقاربة بين الكتابين.
وتتأكد هذه المقاربة وتتجسر كون أن الأستاذ الميلاد قد خصص فصلا موسعا في كتابه المذكور تناول فيه نظرية مالك بن نبي في مشكلة الثقافة، وختمه بالتساؤل: إلى أين وصلت نظرية الثقافة عند ابن نبي؟
وفي نظر الميلاد أن نظرية الثقافة عند ابن نبي تعد واحدة من أشهر النظريات الثقافية التي ظهرت في المجال العربي المعاصر، وأكثرها خبرة ونضجا وتماسكا، واكتسبت تميزا خصوصا مع غياب هذا النمط من النظريات إبداعا واكتشافا على مستوى الدراسات الثقافية في العالم العربي.
ومع ذلك بقيت هذه النظرية بعد غياب ابن نبي على حالها ولم تشهد تطورا وتقدما وتراكما وتجددا مهما، لا من الناحية المعرفية والمنهجية ولا من الناحية التحليلية والنقدية، وانتهت إلى وضع جامد وما زالت على هذا الحال بدون تحريك أو تجديد.
والذي كرّس هذا الوضع الجامد طريقة التعاطي مع هذه النظرية، التعاطي الذي لم يكن فعالا من الناحية النقدية، أو معرفيا من الناحية التحليلية.
وفي المجال العربي يمكن تحديد ثلاثة اتجاهات في التعاطي مع نظرية الثقافة عند ابن نبي، وهذه الاتجاهات هي:
الاتجاه الأول: وهو الاتجاه الذي يتوافق مع النظرية ويتناغم معها ويدافع عنها وينبهر بها أحيانا، وهذا هو الاتجاه الغالب في الدراسات والكتابات التي أنجزت حول أفكار ابن نبي ومنظومته الثقافية، وينطلق أصحاب هذا الاتجاه من أهمية وقيمة وفاعلية الأفكار والمفاهيم والتصورات التي توصل إليها ابن نبي في مجالات الثقافة والحضارة والاجتماع، وضرورة التعريف بهذه الأفكار والتواصل معها.
وإلى بداية تسعينيات القرن العشرين كان في تقدير البعض أن فكر ابن نبي يتعرض لنوع من الإهمال أو الإقصاء أو التعتيم وهذا ما عبّر عنه بعض الكّتاب وكان دافعا لهم في إنجاز كتابات ودراسات حول فكره وسيرته.
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي يتعارض مع نظرية ابن نبي وعموم منظومته الثقافية وقد حاول أصحاب هذا الاتجاه الكشف عن بعض الأخطاء والعيوب الفكرية والثقافية في مؤلفات ابن نبي ولفت الأنظار إليها لعله بقصد الحد من توسع وامتداد أفكاره من جهة، والحد من جاذبية ولمعان هذه الأفكار من جهة أخرى.
وهذه الأخطاء والعيوب المقصودة هي أفكار ومفاهيم كانت تفسر بطرق ملتبسة عند هؤلاء، ومن هذه المفاهيم التي تركز عليها النظر مفهوم القابلية للاستعمار الذي فسره البعض على أنه يتضمن تبريرا للاستعمار أو يدعو لمهادنته.
في حين أن ابن نبي يفسر هذا المفهوم على خلفية أن الاستعمار هو نتيجة وليس سببا، والمشكلة عندنا هي في الذات وليس في الاستعمار نفسه، وحسب القول الذي نقله «أخرجوا الاستعمار من نفوسكم يخرج من أرضكم».
وهكذا النظر لمفهوم التراب الذي اعتبره ابن نبي أحد عناصر مركب الحضارة إلى جانب عنصري الإنسان والوقت، فقد فسره البعض على خلفية أن ابن نبي يبالغ في أهمية الجانب المادي في بناء الحضارة، وهكذا النظر أيضا لمبدأ الذوق الجمالي الذي عدّه ابن نبي من عناصر مركب الثقافة وفسّره البعض على أنه من ملامح تأثر ابن نبي بالفكر الغربي الذي يبالغ في تقديس مفهوم الجمال.
والملاحظ على أصحاب هذا الاتجاه أنهم لم يقدّموا نقدا معرفيا لنظرية الثقافة عند ابن نبي ولمنظومته الثقافية بصورة عامة، ولم يساهموا في تطوير أو تحريك التعامل النقدي والنظر التحليلي أو حتى القراءة العلمية والمعرفية لأفكار ونظريات ابن نبي.
الاتجاه الثالث: وهو الاتجاه الذي يتجاهل نظرية ابن نبي ومنظومته الثقافية ولا يحاول الاقتراب منها أو الاحتكاك بها بأية صورة كانت بما في ذلك الصورة النقدية.
لهذا ظلت نظرية الثقافة عند ابن نبي جامدة ومازالت على هذا الوضع دون الإضافة عليها أو الانطلاق منها نحو بناء أفكار جديدة أو إبداع ماهو أرقى منها أو حتى العمل على تكميلها وتكاملها.
والذين ورثوا أفكار ابن نبي ونظرياته ظلوا يمجدونه ويعرفون به ويدافعون عنه أمام خصومه ومنتقديه، ولكن لم يظهر من هؤلاء من يضيف إلى أفكاره ونظرياته أو يجدد فيها أو يبدع من خلالها أو يكملها أو غير ذلك.
ومن جانب آخر مازال العالم العربي وفي نطاق الفكر الإسلامي بوجه خاص يفتقد إلى نظريات في الثقافة يمكن لها أن تنازع أو تزاحم أو تحل مكان نظرية ابن نبي في الثقافة، ومن بعد ابن نبي لم تظهر نظرية في الثقافة تنتمي إلى المنظومة الإسلامية، الأمر الذي يكشف عن ضعف شديد ينبغي العمل على تداركه والتغلب عليه من خلال مضاعفة الاهتمام بحقل الدراسات الثقافية وبحقل العلوم الإنسانية والاجتماعية.
وما ينبغي أن يُعرف حسب قول الميلاد أنه من خلال هذه القراءة والتحليل لم يكن بصدد التقليل من أهمية وقيمة نظرية الثقافة عند ابن نبي وإنما كان بصدد السعي نحو ألا تصل هذه النظرية إلى حالة من الجمود والتوقف، أو نصل نحن إلى حالة التوقف عن الإبداع والتجديد، الأمر الذي يتطلب تغيير طريقة التعاطي ومنطق التعامل مع نظرية ابن نبي ومنظومته الثقافية بشكل عام من أجل قراءة معرفية جديدة، وبهذا يكون الميلاد قد فتح أمامنا أفقا في طريقة التعاطي مع فكرة الثقافة من جهة، وفي طريقة التعاطي مع فكرة الثقافة عند ابن نبي من جهة ثانية، كما أنه فتح هامش المقاربة بين كتابه «المسألة الثقافية...» وكتاب ابن نبي «مشكلة الثقافة».