الإقدام على التعب راحة
اقتحام عالم الفكر والمعرفة والثقافة تثير في النفس مجموعةً من التساؤلاتِ في غاية الخطورة والحساسية، وتقدح في الذهن رؤى ذات منحى خطر.
منها التساؤل التالي: هل توجد معركةّ مستترةٌ خفيةٌ أو ظاهرةٌ بارزةٌ بين العوام ورجال الفكر والمعرفة والثقافة والفقه؟ وبصياغةٍ أخرى: هل للعوام «الرأي العام غير المستنير» سلطة قامعة تخيم على الأجواء المعرفية والفكرية والثقافية والفقهية أم لا؟
هذا التساؤل كان يختلج في نفسي منذ زمنٍ طويل، سألته أحد طلبة العلم قبل ربع قرن أو أكثر، إذ كنت وقتها أدرس لديه، وكانت إجابته لي: العوام لا سلطة لهم على الفقهاء، ونهرني. ومنذ تلك الفترة والسؤال حبيسٌ في داخلي، لم أجرؤ على مقاربته أو معالجته مشافهةً أو كتابةً، لا في مكان عام أو خاص، خشية أن أُرمى بوابل من سهام التسقيط والتشويه والتحقير والتقزيم والتعريض بي، إلى أن استوقفتني عبارةٌ لعبد الرحمن الكواكبي، وأنا أقرأ كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، فانطبعت في صفحة ذهني، وهي: «الخوف من التعب تعب، والإقدام على التعب راحة». فحفزتني وقررت مقاربة الموضوع بدون هاجس الخوف.
رجال الفكر والثقافة والفقه قامات تشكل مصدر قوة أية أمة وأساس نمائها وتقدمها وأعمدة بنائها، والعناصر الفاعلة في ديناميكيتها وصيرورتها وحركتها. والأمة التي تفتقر إلى مثل هذه العناصر الفاعلة ترزح تحت وطأة الجهل وينهشها التخلف من كل جانب وتتصف بالجمود والسكون. ولكون طبقة رجال الفكر والفقه تشكل دائرة الوعي الفاعلة في الأمة، تؤمل الأمة فيها القيام بدور التغيير الإيجابي وطرح المبادرات المؤثرة واجتراح الحلول، وكشف مواطن الخلل للنأي عنها، وتوظيف عناصر القوة، واستشراف المستقبل بإبداعاتهم وإشراقاتهم وإضاءاتهم الفكرية.
إذا كانت الأمة تنظر إلى هذه الطبقة بأنها عنوان تقدمها وعنصرها الفاعل الذي تتكئ عليه في مواجهة التحديات، فما الذي يمنع هذه الطبقة عن القيام بأداء الدور المنوط بها والمؤمل منها وفق ما تملكه من مقومات ذاتية واكتسابية؟
نعم هذه الطبقة تملك إشراقات إبداعية وحيثيات العطاء والنماء، إلا أنها تصطدم بحواجز صلبة تسمى بسلطة العوام، ولا يمكن لهذه الطبقة تخطيها وإبراز إشراقاتها ما لم تمتلك الجرأة على تخطي الثابت في نظر العوام وتحدي المتفق عليه المنغرس في أذهانهم، وتجاوز مقاربة الأشياء من سلطة العوام القامعة.
والآن بعد هذا العرض العام سأذهب إلى النقطة الخاصة الحرجة في المقال - التي بسببها قد أكون عرضة للسب والشتم والقذف والقدح بأبشع الأوصاف، واتهامي بالزندقة والعلمنة والإلحاد، من قبل أصحاب النزعة التقديسية، الذين يرون كل مقاربة لموضوع ديني مساس بالدين والمتدينين - وهي ظاهرة اجتياح أفة «الإصابة بالعوام» - الأجواء الدينية كما اصطلح عليها الشيخ المطهري.
إن إنكار تفشي ظاهرة سلطة العوام القامعة على الأجواء المعرفية عامة وعلى الأجواء الدينية خاصة، أمر يثير الاستغراب، ومن لا يراها كمن لا يرى الشمس في رابعة النهار. لابد أن نعترف بأن الجو المعرفي بصفة عامة والديني بصفة خاصة ملبد بغيوم الاستعوام، فهو جو حافل بالتوجس والخوف والرعب، فليس كل صاحب رأي سواء كان فقيها أو مثقفا أو مفكرا يملك القدرة على البوح بآرائه وأفكاره ومواقفه وإشراقاته الإبداعية دون خوف أو وجل بسبب الإرهاب الفكري الذي يمارسه العوام.
ظاهرة سلطة العوام القامعة على رجال الدين، وصف آثارها الشيخ المطهري بأنها أشد خطورة وبلاء من آثار الزلازل والسيول.
أنا لا أقول بأن للعوام سلطة قامعة على عمل الفقهاء بنحو الموجبة الكلية، بل بنحو الموجبة الجزئية، فبعض الفقهاء حالهم حال بعض المفكرين والمثقفين لا يجرؤن على البوح بآرائهم خشية تسقيطهم وإشاعة شائعات ما أنزل الله بها من سلطان من قبل العوام اتجاههم.
وهناك من الفقهاء من اقتحم التابوهات وكسر حاجز الخوف وتحدى سلطة العوام وجهر برأيه. والسيد الحكيم أحد هذه النماذج، إذ أفتى بطهارة الكتابي، فأحدثت هذه الفتوى هزة في الأوساط العلمية لاختلاف مسارها عن مسار المشهور، وولّدت جرأةً في نفوس فقهاء آخرين - يرون طهارة الكتابي ولكن يضمرون ذلك في نفوسهم خشية أن يرموا من الآخرين بالشذوذ الفكري - جعلتهم يفتون بطهارة الكتابي علنا وجهرا.
قد يقول قائل: إن توصيف الكاتب لظاهرة اجتياح العوام القامعة على المجال الديني، أمر بعيد عن الواقع، والفقيه ليس أمامه تابوهات ومحظورات، بل كل ما طرحه ماهو إلا نتاج قوة الكاتب التخييلية وأوهام ثانوية في ذهنه.
مقاربتي لهذا الموضوع ليست بمنأى عما يقوله عالم من علماء النجف المبدعين والمتحررين من شرنقة سلطة العوام القامعة وهو الشيخ محمد جواد مغنية، إذ يقول في كتابه فقه الإمام جعفر الصادق : «قد عاصرت ثلاثة مراجع كبار من أهل الفتيا والتقليد، الأول كان في النجف الاشرف وهو الشيخ محمد رضا آل ياسين، والثاني في قم وهو السيد صدر الدين الصدر، والثالث في لبنان، وهو السيد محسن الأمين، وقد أفتوا جميعا بالطهارة «طهارة الكتابي»، وأسروا بذلك إلى من يثقون به، ولم يعلنوا خوفاً من المهوشين، على أن ياسين كان أجرأ الجميع، وأنا على يقين بأن كثيرا من فقهاء اليوم والأمس يقولون بالطهارة، ولكنهم يخشون الناس، والله أحق أن تخشوه».
كان الشيخ مغنية يتحدث عن الفترة التي كان فيها حكم نجاسة الكتابي هو المشهور.
وبقليل من التأمل فيما نقلته عن الشيخ مغنية نلمس اجتياح ثقافة العوام الضاغطة والقامعة.
وآخيرا أقول: إن التحرر من سلطة العوام يستوجب على صاحب الفكر التحرر أولا من أغلال الخوف وقيوده، وبالتالي سيجد نفسه قادرا على مواجهة تابوهات العوام.