باب النجار مخلع
هذا المثل بات مضرباً لمن يُعالج قضايا الناس وهو يعيش ذات القضية في حياته، والجدير بالذكر أن أصل المثل والقصّة التي تقف وراءه، لا يمتّان بصلة لمناسبة ضربه حالياً، ورغم ذلك تبقى هناك مغالطة كبيرة في طبيعة تداول هذا المثل.
فنحن نجد في حياتنا أن الكثير من القضايا إنما تم اكتشافها ومعالجتها من خلال أشخاصٍ عاشوا أزمة تلك القضايا، وبمعايشتهم لها تمكّنوا من تلمّس الحلول الناجحة. وبعضهم أصبحوا مخترعين ومكتشفين على مستوى العالم؛ وكما قيل: من رحم الألم يولد الإنجاز.
ومن جانب آخر فإن من يعيش الأزمة يكون أقدر على فهم أبعادها بعكس من لا يعيش تلك الأزمة، وحين يكون مؤهلاً لتقديم المعالجة والتوجيه فإنه الأفضل من غيره، غالباً. فمثلاً من يعاني من مرضٍ مزمن كمرض فقر الدم المنجلي، تجده أكثر تفاعلاً وتعاطفاً من غيره ممن لم يذق طعم الألم الذي يعيشه المصاب بهذا المرض، وبالتالي فإن وجود هذا الشخص المصاب في موقع المعالجة سيكون أكثر رحمةً وإنسانية من غيره. وكذلك من ابتلي بالإدمان وشُفي منه، تجده أكثر الناس تعاطفاً مع مدمني المخدرات وسعياً وراء نجاتهم من هذا الخطر، فهو قد ذاق مرارة الإدمان، وصعوبة التعايش مع الناس، وأيضاً هو يعرف المداخل لانتشار هذا الخطر، ولذلك تجده أقدر على تقديم المساعدة للمدمنين من غيره.
ومثال آخر من عاش في حياته يتيماً تجده أكثر الناس تعاطفاً مع اليتامى لأنه يشعر بمعاناتهم ويتحسس مشاعرهم، بعكس ذلك الإنسان الذي عاش حياته عزيزاً بين أبويه.
وفي سياق آخر فإن القضايا التي تعصف بالإنسان قد لا يكون هو المسؤول الوحيد عنها، فمثلاً في قضايا الشراكات التجارية، قد يتعرّض أحدهم للفشل والانهيار الاقتصادي ليس لأنه لم يكن كفؤاً للعمل التجاري بل قد يكون معه شركاء تسببوا في فشله، ورغم الفشل الذي مُنيَ به هذا الشخص تجده أقدر على تقديم النصائح والمعالجات لمن يريد خوض التجربة التجارية وذلك لأنه ذاق طعم الفشل فيها، فتجربته وإن كانت فاشلة إلا أنها قد تكون سبباً لنجاحات الكثيرين.
وتأتي أيضاً قضايا العلاقة الزوجية في ذات السياق، فهي ترتبط بشخصين الزوج والزوجة، فحين يكون أحدهما واعياً ومدركاً لدوره ومسؤولياته ويكون الآخر على خلاف ذلك، فإن مصير هذه العلاقة بأحد أمرين: إما الفشل أو المشاكل المتكررة، وأما بقاؤها فهو مرهونٌ بمدى صمود الشخص الواعي من الزوجين.
ويمكنني القول: إن العلاقات الزوجية التي لم تكلل بالنجاح والتناغم بين الزوجين، لا تعني بالضرورة عدم أهلية الشخص الواعي فيها لممارسة دورٍ ريادي على صعيد تقديم معالجات ناجحة للعلاقات الزوجية القائمة، أو إنقاذ الكثير من العلاقة التي هي في طور التأسيس، فهو قد ذاق مرارة العلاقة الزوجية التي يعتريها التصدع من مختلف الجوانب.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن فشل العلاقة الزوجية لا يعني بالضرورة وجود خللٍ في شخصية الزوجين أو أحدهما سواءً ذلك الخلل يرتبط بالجانب الديني أو الأخلاقي أو الاجتماعي، فالعلاقة الزوجية مزيجٌ فريدٌ من نوعه بين شخصيتين، ومعادلة الانسجام بينهما لا ترتبط فقط بالجوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية، وإنما لها أبعادٌ أخرى هي الأكثر تأثيراً على تحقيق التناغم بين الزوجين. ولعلك تجد زوجين لا يؤمنان بدينٍ ولا يعتقدان بالمبادئ والقيم إلا أن بينهما تناغماً كبيراً جداً، وتربطهما جاذبية لا نظير لها، وفي المقابل تجد زوجين مؤمنين إلا أن علاقتهما الزوجية لا تجد سبيلاً للهدوء والاستقرار.
نعم الالتزام الديني يُحقق غاية عظمى للعلاقة الزوجية تتمثل في احترام كلٍّ من الزوجين لإنسانية بعضهما وعدم تعدي الحدود الشرعية التي أوجبها الله تعالى في تعامل الإنسان مع الآخرين. وحين تجد من الملتزمين من يتعدّى تلك الحدود فذلك دليلٌ على نقصٍ في التزامه الديني.
وللإنصاف يمكننا تطبيق هذا المثل: ”باب النجار مخلع“ على ذلك الشخص الذي يوجّه الناس للفضائل وهو على النقيض يمارس الرذائل، وذلك لأن التوجه الذاتي يفترض في الإنسان أن يلتزم به أولاً قبل أن يوجه الناس إليه؛ فمن يوجه الناس للصدقة وهو لا يتصدق فإن أثر توجيهه لا يتعدى قلقلة لسانه.
وختاماً فإن الله سبحانه وتعالى لعله أراد بحكمته أن يعيش أصحاب الرسالات على وجه الأرض أزماتٍ ترتبط ارتباطاً وثيقاً بدورهم في الحياة، وبعمق دورهم في الحياة تجد أن أزمتهم تكون أعمق، ولذا نجد أن النبي الأكرم لعمق دوره الإنساني فإنه أكثر الناس قد واجه أزماتٍ في مختلف جوانب الحياة الشخصية والعائلية والاجتماعية، وفي هذا متنفساً لأصحاب الرسالات بأن يكونوا أكثر صموداً أمام منعطفات الطريق التي يواجهونها في أداء رسالتهم الخالدة.