الاستغراب «3»
عندما نتتبع المتواليات المعرفية التي ترسم طريق تبلور علم الاستغراب نلمس الحرص الجدي والجهد الجبار لدى أصحابها، وهذا يثير في النفس تساؤلاً كبيراً، وهو: ما الغاية التي وراء هذا الحرص المتزايد والحماس المنقطع النظير من قبل بعض مفكري ومثقفي هذه الأمة لتشييد علم الاستغراب؟
هذا التساؤل يجرنا إلى الكشف عن غاية الاستشراق.
لا يخفى على أحد إن أبرز هدف من أهداف الاستشراق
- حَرِص المستشرقون على تحقيقه -، هو ذوبان الثقافات الأخرى في ثقافة واحدة مركزية، هي ثقافة الأقوى عسكرياً وسياسياً ومعرفياً وأقتصادياً، ومعنى ذلك أن تشكيل الهوية الثقافية والحضارية لكل أمة المتمثلة في الدين والتراث واللغة والثقافة ينبغي أن تكون وفق قوالب ما ترسمه الحضارة المركزية الغربية. وهذا يفضي إلى تحطيم ثقافات الأمم المقهورة وتدمير أسسها وتفكيك أصولها.
فإذا بات المشهد الثقافي والفكري للأمة المقهورة مدمراً ومحطماً ومفككاً، تسرب اليأس إلى نفوس أبنائها، وانغرست في أذهانهم فكرة في غاية الخطورة، وهي بأن جسر العبور إلى المستقبل لا يتم إلا عبر القطيعة التامة مع الماضي ومنظومته العقدية والثقافية وأصوله الفكرية، واتباع ما أنتجته الحضارة المركزية الغربية من مناهج وأدوات معرفية وفكرية وطرائق حياة.
وفكرة القطيعة مع الماضي واتباع ما أنجزته الحضارة الغربية كسبيل وحيد للخروج من قيود واقعنا المرير، لاقت رواجاً عند كثير من مثقفي ومفكري هذه الأمة، وأصبحوا دعاة للترويج لها كأمر حتمي لا مفر منه.
يقول الدكتور إبراهيم العاتي في كتابه إشكالية المنهج في دراسة الفلسفة الإسلامية في هذا الصدد: «و للأسف، فإن عدداً لا يستهان به من الباحثين العرب والمسلمين من تأثر بذلك المنهج وروج له بشكل مباشر أو غير مباشر منذ القرن التاسع عشر، حينما دعا هؤلاء إلى القطيعة مع الماضي والالتفات إلى المستقبل الذي تمثله الحضارة الغربية التي يجب تمثل مناهجها في التفكير وطرقها في الحياة».
قد يقول قائل: بأن الاستشراق ما هو إلا مشروع علمي بحت يهدف إلى دراسة الشرق دراسة موضوعية، بأدوات فكرية جديدة ومناهج معرفية محايدة، لا علاقة له بالاستعمار الثقافي والتمدد الحضاري والاستثمار السياسي. هذا الكلام يجانب الصواب، حيث دراسات المستشرقين تقوم بدور وظيفي هام وهو تحقيق مصالح الغرب في الشرق والهيمنة عليه.
يقول الدكتور عبد الجبار الرفاعي في كتابه «نحن والغرب جدل الصراع والتعايش»: «ليس الاستشراق كما يحلو للبعض أن يقول: خطاباً علمياً ومعرفياً موضوعياً عن الشرق، أنجزه الباحثون الغربيون، الذين تخصصوا بدراسة المجتمعات الشرقية وتراثها، وظلوا أوفياء لتخصصهم طوال حياتهم».
ويقول أيضاً: «إن المعرفة الاستشراقية لم تولد في مناخ محايد، وإنما تشكلت في ظل الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب».
ولا يعني ذلك بأن ليس ثمة من المستشرقين من كان وفياً لمهمته العلمية والمعرفية، إلا أن الأغلبية الساحقة كانوا يحملون أجندة مرسومة لهم سلفاً، وهي تشكيل صورة نمطية مقززة ومنفرة ومشوهة عن الشرق، وهذا ما دفعهم إلى التقاط المناظر الدموية والعنف والتناحر والتقاتل على أتفه الأسباب والتخلف والجهل والجمود فقط واعتبارها هي الصورة المعبرة عن الشرق.
وقد تركوا عن عمد وسابق إصرار كل وهج حضاري أو معرفي أو ثقافي وراء ظهورهم، فتغافلوا عن مظاهر حضارة الرافدين ووادي النيل ونحوهم من حضارات الشرق.
وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤل في غاية الأهمية وهو:
المستشرقون لم يتركوا تلاً أثرياً ومواطن مهجورةً إلا ونقبوا عنها، أليس من أجل الكشف عن الحضارات التي أندرست؟
هذه الجهود الجبارة التي قام بها المستشرقون ليس من أجل إبراز حضارة قديمة على مسرح الحضارة، بل الهدف والغاية الأساسية توظيف كل هذه الجهود والأعمال لمصلحة الغرب الأوربي. فعلم الاستشراق لم يؤسس إلا لتحقيق طموحات الغرب التوسعية ونزعاته المتطلعة للهيمنة على الشرق.
والمفكر الأمريكي الجنسية الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد وصف وظيفة الدراسات الاستشراقية وصف موضوعياً، إذ اعتبر الاستشراق جهازاً ثقافياً يتسم بالعدوانية، ويقول عن الغرب بأنه جند الاستشراق لخدمة مصالحه، إذ يرى الشرق بأسره في أرضه وثرواته وإنسانه مخلوقاً لإشباع شهوات الإنسان الأوروبي ورغباته.
بعد أن عرفنا غايات وأهداف الاستشراق، لنتعرف على هدف وغاية الاستغراب، فما هو هدف الاستغراب؟
يتضح لنا هدف الاستغراب من خلال تلخيص الدكتور حسن حنفي لمهمة الاستغراب، إذ يراه محاولة معرفية ترمي إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركب العظمة عند الآخر.
من كلام الدكتور حنفي نرى بأن ثمة فرق جوهري في الغاية بين الاستشراق والاستغراب، فالأول يهدف إلى هيمنة وتمدد الحضارة المركزية الغربية من دراسة الشرق، وإبراز تفوق الغرب على الشرق وعلو شأنه، ونفي الآخر - أو على أضعف الإيمان إظهاره كتابع له - وتدميره.
أما الثاني فلا يهدف إلى تدمير الثقافة والحضارة الغربية، بل يسعى إلى تحليل ومعرفة مكوناتها الأساسية وأصولها لتحصين هوية الأنا الحضارية والثقافية والمقومات الذاتية من لغة ودين وتاريخ وموروث متمثل في العادات والتقاليد للربط بين الماضي والحاضر والمستقبل .