جواهرٌ لاتُفنى
حين نقول لغتنا العربية هي هويتنا وحضارتنا المعجونة بذهب إبريز، فإننا لانبالغ في لغة تزينها أحرف برائحة شرقية تنطق بمسيرة الكواكب
وتعانق خميرة الأرض، رغم مرورها بعهود مظلمة إلا أنها تغلبت ونهضت وهي جديرة بالحفاظ والحرص عليها للبقاء والاستمرار. علينا الإبتعاد عن المفردات الأجنبية لكي لا تتتشوه ولا تنصهر في حضارات أخرى. كانت ولا زالت لغة أنفاسها تشرق بالبخور وتحمل على راحتيها خلاصة زيت يفتحُ أشرعة الخيال…
لاتلمني في هواها
لغة الضاد هل أهوى سواها؟
نزلت في كل نفسٍ
وذابت في دماها
لغة القرآن
لغة الأجداد
بها أمي قد تغنت
وبها الوالد تباهى
الانتماء والحب توأمان، بل كنزان في كنز يضمه نغمٌ ووجد وسهد للغة هي نبض وعشق لا تستدير إلا في مساحة تجمع الثمانية وعشرين حرفاً، تحتاج مجلدات لها وحدها، وحبٌ خاص بها وحدها وفصولٌ لها وحدها ومسافات ضوئية تجتاز جميع المفردات لنعقد صلحاً مع اللغة ونقيم صلاة الحب على خصرها لنجمع حبات اللؤلؤ المتناثرة على شواطئها ونتهجأ أفكار الموج لنسمع إيقاع تهويمات الياسمين ونحدق بعينين تقرآن رواية عشق.
لعلنا نلتفت يوماً إلى أن جلب ثقافة الآخر ولغته لا يعني التطور والحداثة، فما هو إلا سهمٌ يخترق مفاتن اللغة ويمزقها أشلاء ويغلفها بالأكفان.
فلنحتفي معاً بمستودع تراث الأمة العربية في جميع الميادين، حيث أن لغة الشعب هي مصداق هويته ووعاء ثقافته ومرآة نهضته والحضن الدافئ لتراثه وهي ذاكرة الأمة وتاريخها المحدق فى جبين الشمس.
اللغة الأم هي جزء لا يتجزأ من شخصية الناطقين بها وإن تزاحمت مع لغات أخرى فهي المُعبّر الدقيق عن الخلجات وهي وعاء الفكر وأبرز سمات المجتمع الإنساني على مسارها يتزاحم النبض ونستمد منها بحة الريح الضاحكة ونسيم الفجر.
وقد قال الشاعر عدنان التحوي في لغة الضاد:
فحسبُنا مِنْ لِسانِ الضّادِ أنّ له ... فيضاً من النّور أو نبعاً صَفا وجَلا
وأنه اللغة الفصحى نمت وزهتْ ... تنزّلتْ وبلاغاً بالهُدى نزل
سميت اللغة العربية بلغة الضاد، لتميز هذا الحرف بمنزلته الفريدة بين حروف الهجاء الأخرى، فهو أحد الحروف المميزة، حتى عرفت اللغة العربية باسمه لخصوصية هذا الحرف الذي بقي ندياً بين الحروف، وعجِز الناطقون بغير اللغة العربية عن إيجاد بديل يغني عن صوت الضاد في لغاتهم.
قال الشاعر صباح الحكيم:
أنا لا أكتب إلا لغةً … في فؤادي سكنت منذ الصغرْ
لغة الضاد وما أجملها … سأغنيها إلى أن أندثرْ
سوف أسري في رباها عاشقاً … أنحتُ الصخر وحرفي يزدهرْ
يقول البعض أن اللغة العربية في مأزق، مأزقها أتت به إغفاءة اخترقت ذراع الأبجدية فاهتزت ساريتها من هضبة الألف إلى وادي الياء في زمن مختلف يشاكس صدى تتقاذفه السفوح.
قد نتفق أو نختلف قليلاً بأن الغيم ثقيل وأننا نتغنى بلغة سكنت الفؤاد منذ الصغر وحرف الضاد فيها قد ازدهر وابتلع شهقة اللحظات.
أيتها اللغة من يعلق على ظهركِ ثياب الوهن هم اللذين يحملون ظمأ الأبناء إلي الانتماء وهم اللذين دفنوا
أبجديتهم تحت التراب في إقليم يزحف نحو الضباب ويتغرغر بندى الصحراء.
حين نقف على سلالم التحديات التي تواجه لغتنا والتي تضمها السنابل الخضراء هو ما أطلق عليه إسم العولمة، ولا ننكر أن للعولمة جوانب إيجابية، منها التبادل المعرفي والثقافي المحفوف بأديم يحمل رعشة السموات، رغم تعرضها لهجمات فتاكة في هذا العصر، فلابد من التصدي لنكون على سلم التقدم العلمي والتقني ونُسَبح بصوت صورها لنسير في ركب الأمم المتقدمة بفكر ومستودع للقيم الثقافية والإجتماعية بهوية وانتماء ونغمات ينبجس سحرها من شواطئ تغدق ترانيم على موائد الشمس …
من واجب الأمة العربية حماية اللغة والتراث وتسليط الضوء على الجوانب المضيئة من حضارتنا وتاريخنا وتدللها لتتجسد النغمات وتتفهرس اللحظات، ونحصد عناقيد الحب الأكبر.
وبعد، فهل من حق البعض الممتلئة حناجرهم أن يتساءلوا: أما حان الوقت لوضع قانون لتمجيد اللغة وحمايتها؟