الإمام الحسين عين الوعي واليقظة التامة
عندما أردت الكتابة عن الإمام الحسين في أربعينيته تواردت إلى ذهني مجموعة من الأفكار مزدحمة، ولكن واجهتني عقبة في الكتابة، إذ وجدت عدم مواكبة ما أملكه من رصيد لغوي من المفردات والكلمات للتعبير عن مؤدى هذه الأفكار، رغم أني في مقالاتي السابقة لم أعش مثل هذه الحالة من القصور، بل كانت مفرداتي اللغوية تساير أفكاري. وأتصور أن سبب عجزي منشؤه هو التطلع إلى الكتابة عن قامة عملاقة تشكل امتداداً حقيقياً لأشرف الكائنات ألا وهو الإمام الحسين، فأين رصيدي اللغوي والفكري من مقاربة هذه القامة التي تفيض عطاء وتضحية؟
وأخيراً قررت أن أشمر عن ساعدي وأقارب هذه القامة العملاقة من بوابة الفن التشكيلي _ ولا أزعم بأن لي صلة بالفن التشكيلي _ لعلي أصل إلى معالجة تأملية وفلسفية متواضعة.
بين الفينة والفينة تشهد مدن العالم معارض فنية تشكيلية، يشارك فيها كبار الفنانين التشكيليين العالميين على اختلاف مدارسهم ومشاربهم، من رومانسية وكلاسيكية وواقعية وانطباعية وتعبيرية وتجريدية وسريالية، ويقومون بعرض أرقى ما أنتجته ريشهم من لوحات تتضح فيها لمساتهم الفنية الرائعة. وقد احتلت بعض اللوحات مكاناً في نفوس متذوقي الفن التشكيلي لما تتمتع به من مقومات ولمسات فنية مبهرة، حتى بات التنافس المحموم على اقتنائها بمبالغ مالية طائلة علامة فارقة في المزادات العلنية، كلوحة الموناليزا للفنان ليوناردو دافنشي، ولوحة الجورنيكا لبيكاسو، ولوحة غرق الميدوزا لجاريكو.
بيد أن جميع هذه اللوحات لا ترقى إلى مستوى تلك اللوحة الخالدة الكونية الكربلائية التي لا تنتمي إلى أية مدرسة فنية من المدارس السالفة الذكر، بل تنتمي إلى مدرسة التضحية والفداء. إذ عمد راسمها إلى أدوات _ لم يستخدمها أي فنان عالمي مهما بلغ شأنه وعلا مكانه وذاع صيته _ وهي دمائه ودماء أهله وأصحابه. واستطاع أن يوظفها خير توظيف، ففاقت الضوء كعنصر بارز في الامتداد، فامتد تأثيرها إلى خارج نطاق المسرح التي سالت فيه «أرض كربلاء» وجاوزت اللحظة والزمن التي اندمجت فيه مع تلك الثرى، فحلقت بعيداً عن ذلك المسرح إلى مختلف أصقاع الأرض وكذلك انعتقت من قيد لحظة زمن وقوع المأساة إلى الإتصاف بالخلود.
وهذا التوظيف الفاعل والمؤثر لا يتأتى إلا إذا كان راسمها يعيش حالة اليقظة التامة والوعي الكامل والإتزان العاطفي والنفسي والإتصال بالسماء والإتصاف بالشموخ والعزة والكرامة والإباء.
ما التمظهرات الدالة على أن الحسين في تلك اللحظات كان يعيش قمة الوعي واليقظة والإتزان؟ لماذا لا نقول بأن هذه اللوحة الكربلائية والمأساوية ماهي إلا انعكاس لحالة إنسان مأزوم نفسياً يعيش حالة انكسار ويأس وتبرم وسأم من هذه الحياة، وها هو يقول: «إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً»، وقوله هذا فيه إشارة واضحة على انعدام التوازن النفسي وافتقاره لرؤية واضحة مما دفعه على أن يقدم على أمر أشبه بالانتحار؟
ثمة أشخاص يطلقون أحكاماً تجانب الصواب بسبب الجمود الذهني والاستسلام إلى قبلياتهم الإيديولوجية الفكرية وعدم تحفيز أذهانهم على إثارة التساؤلات ليتمكنوا من مقاربة الحقيقة.
ففارق كبير في إطلاق الأحكام بين الكسول ذهنياً والمتحرك ذهنياً من خلال تساؤلاته وتنقيباته وسبر الأغوار.
عندما يشم أحد الأشخاص عطراً جذاباً، فيطلق حكمه على العطر فقط ولا يتجه حكمه إلى أي شيء آخر، فهذا لم يثر في نفسه أية تساؤلات بل كان تركيزه على العطر، بخلاف أخر ذهب بتركيزه نحو الزهرة التي استخرج منها، أي قام بسبر الأغوار.
من هنا نقول: إذا أردنا أن نطلق أحكاماً عن تلك اللوحة الكربلائية علينا أن نسبر أغوارها لا الاتكاء على قبلياتنا الفكرية.
ومن هذا المنطلق أحاول مقاربة وقراءة هذه اللوحة برؤية فلسفية وتأملية قائمة على إثارة التساؤلات:
ما هي فلسفة الموت عند الإمام الحسين؟ كيف نقارب ما أقدم عليه الإمام الحسين من خلال تلك القاعدة العقلية، وهي قاعدة العلّية؟
بالإجابة على هذه التساؤلات تتبدد مثل تلك الإشكالات السالفة.
هل بإمكاننا أن نسد أبواب الموت عنا؟
الموت حقيقة ماثلة أمام الجميع على اختلاف توجهاتهم الفكرية اتجاه الأخرة. فهو إذن موضع تسليم لدى أصحاب الأديان سواء كانت سماوية أو وضعية والربوبيين والملحدين.
وهذا التسالم دفع بعض الفلاسفة للبحث في حقيقته وسبر أسراره وفك شفراته إلا أنهم أجمعوا على أنه لغز محير ليس بإلإمكان معرفة سره. ومع ذلك لم يتوقفوا عن إثارة التساؤلات والتنقيب عن حقيقته.
يقول الفيلسوف الألماني كانت عن الموت: «ما يسمى الموت لا يمكن أن يقطع عملي لأن عملي ينبغي أن ينجز لأنني يتعين علي أن أقوم بمهمتي فليس هناك حد لحياتي وإنني خالد».
دعونا نتأمل قليلا فيما قاله كانت، إذ تجده يطمح إلى الخلود من خلال أداء المهمة الملقاة على عاتقه دون أن يعبأ لتلك الحقيقة الماثلة أمامه ألا وهي الموت. وهنا نسأل إذا كانت شخصية مثل الفيلسوف كانت لم تعبأ بالموت ولم يوقفه عن أداء عمله، فهل يوقف الموت شخصية تفوق شأناً الفيلسوف كانت بمسافات ضوئية «الإمام الحسين»، عن أداء رسالتها؟
بل بالعكس وظف الحسين الموت لتحقيق أعظم الأهداف وخلود رسالة جده المصطفى.
ويرى الفيلسوف الألماني شوبنهاور الموت هو الموضوع الذي يلهم الفلسفة والفلاسفة.
فإذا كان الموت يجود على الفلاسفة بالإلهام فهل سيتوقف جوده عن الحسين المتصل بالسماء في حركاته وسكانته؟
ويقول هايدجر: «عندما تقابلني إمكانية الاستحالة التي يستحيل معها كل إمكانية، حينئذ يكون هذا هو موتي».
نعم عندما رأى استحالة إصلاح المعوج من أمر يزيد «لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد» واستحالة بقاء دين جده إلا بالتضحية أقدم على أداء رسالته بدمه الطاهر، فحول الاستحالة إلى صيرورة، صيرورة بقاء الدين واستمراريته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
نعم، ليس بخافٍ علينا بأن الإنسان بفطرته يميل إلى النأي عن العدم، مما يجعله يفكر جدياً في وسائل تعينه على بقاء ما يحفظه من العدم كالإنجازات والولد.
فإذا كان هذا يدركه الإنسان البسيط فتجده يحاول البحث عن الوسائل التي تبقي ذكره وتمجده، فهنا نسأل: هل الإمام الحسين بدع من القول لا يعمل وفق هذه الطبيعة البشرية؟
الحسين ليس بدعاً من القول، بل حول موته إلى حياة خالدة في كربلاء بتضحيته وإحيائه لأمة جده.
يقول بوذا في حديثه عن الناموس الطبيعي:
«ألا ترى أن كل شيء في الطبيعة يشبه حياة الإنسان، وهي عرضة الناموس الطبيعي؟ إن الغلة الحاضرة نتيجة ما زرع من قبل، والمستقبل ابن الحاضر».
- أ ليس ما قاله بوذا يشير إلى تلك القاعدة العقلية، وهي قاعدة العلية؟
- أليست مآلات ونتائج الثورة الحسينية كانت متوافقة ومتناغمة مع مقدماتها؟
- إذا كانت نتائج الثورة الحسينية جاءت على تمام الانسجام مع مقدماتها، فإذن ليس بإلإمكان القول: بأن الإمام الحسين قد أقدم على أمر أشبه بالانتحار.
بأن الإمام الحسين لم يهرب من تحمل المسؤولية اتجاه دينه وأمته، بل قام بها على
أكمل وجه ببصيرة ويقظة تامة ووعي كامل، وخلق أملاً للأمة من رحم المعاناة وأبدل الألم أملاً.