مستلزمات التغيير 2
لا شك أن هناك جملة من العوامل الموضوعية والذاتية، والمحددات الداخلية والخارجية، الخاصة والعامة، التي تسمى عملية الحراك أو التغيير الاجتماعي لمجتمع ما، وبالتالي من الصعب تجاهلها أو القفز عليها بشكل إرادي.
تتباين الافتراضات والأطروحات النظرية هنا حول مفهوم الحراك والتغيير الاجتماعي، نذكر من بينها فرضية التناقض والصراع، الناجمة عن تبدل الشروط المادية والاجتماعية للإنتاج، وفرضية التطور التقني والعلمي، وفرضية «تبدلات» أنظمة القيم ما بين القديم والجديد، وكذلك فرضية الاستجابة لمقتضيات التطور أو التقدم العام، ومتطلبات التحديث السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، كما يجري التمييز ما بين محركات التغيير كالصراع الاجتماعي، والنزاع بين المجموعات والأجيال، والتناقض ما بين قوى الإنتاج الحديثة ووعيها المرافق من جهة، وبين العلاقات الاجتماعية والنماذج الثقافية التقليدية السائدة من جهة أخرى، كما لا نستطيع إغفال فرضية دور العامل الخارجي، والأمر ذاته ينطبق على أشكال التغيير «تطوري، خط مستقيم، حلزوني، دائري». غير أنه غالبًا ما يكون التغيير الاجتماعي نتاج خليط من العوامل المحددة غير أن هناك على الدوام عاملاً أو عوامل حاسمة في صيرورة تلك العملية الاجتماعية - التاريخية المعقدة والمتناقضة بالضرورة.
بالنسبة لمجتمعنا، يمكن القول بأن عاملين مهمين، ومتزامنين، كان لهما دور حاسم في عملية التشكل الاجتماعي «الحديث» في بلادنا.. وهما أولاً: إقامة الدولة المركزية الموحدة التي تعد أول وحدة عربية ناجحة في العصر الحديث تجاوزت حال التمزق والاحتراب والتخلف والركود بأبعاده «الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية» المختلفة، إلى جانب عمق الانقسامات «الجهوية والقبلية والطائفية والثقافية» المتأصلة على مدى قرون عديدة.
قاد عملية التوحيد الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود حيث شملت الشطر الأكبر من الجزيرة العربية، وفي 23 سبتمبر 1932م تكلل بالإعلان عن قيام الكيان السياسي الجديد «المملكة العربية السعودية».. عملية التوحيد مثلت تاريخيًا خطوة تقدمية إلى الأمام، لأنها ببساطة خلقت الظروف الموضوعية الملائمة لتشكل مجتمع موحد، في دولة لها حدودها المتعينة، وأجهزتها ومرافقها المركزية، مثل الحكومة، الجيش، العملة النقدية، والتزاماتها تجاه السكان مثل التعليم والصحة والتوطين «للبدو الرحل».
غير أن المجتمع آنذاك في مستوى ودرجة تطوره، ولأسباب تاريخية وموضوعية، كان يفتقر إلى وجود مجتمع مدني ومؤسسات مدنية حديثة.
العامل الثاني في عملية التشكل الاجتماعي «الحديث» في بلادنا: تمثل في استكشاف البترول، ثم استخراجه لاحقًا إثر منح حكومة المملكة «بعد عام على تأسيسها» في عام 1933م امتيازًا للتنقيب عن البترول لشركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا «سوكال آنذاك وشيفرون حاليا» التي أصبحت ملكيتها سعودية بالكامل في عام 1980م.
لقد أدى اكتشاف النفط في السعودية من قبل شركة النفط الأمريكية التي أصبح اسمها شركة الزيت العربية - الأمريكية أو اختصارًا «أرامكو» إلى تخلخل العلاقات الاجتماعية التقليدية والراكدة على مدى طويل، ومن ثم بداية تشكل علاقات إنتاج حديثة «علاقات رأسمالية» لكنها ظلت متعايشة مع العلاقات الاجتماعية القديمة السائدة في مناطق شاسعة من مناطق البلاد.
اكتشاف النفط في بلادنا أدى موضوعيًا إلى توليد علاقات اقتصادية - اجتماعية «حديثة» من نمط جديد، قائمة على أساس المشاركة الجماعية في العمل والإنتاج، وما ولدته من توحيد لمصالح وقيم وتطلعات جديدة مشتركة، بين أناس ذوي انتماءات مناطقية وقبلية ومذهبية متباينة ومتعددة، وما رافق ذلك وأعقبه من تعليم واكتساب مهارات ومعارف تقنية وعلمية، ومن احتكاكات وتفاعلات «اجتماعية وسياسية وثقافية» محلية وخارجية جديدة، أدت منذ بداية الخمسينيات للقرن العشرين المنصرم، إلى تشكل وبلورة حراك اجتماعي وفكري نشط، كما تأسست هيئات وجمعيات ثقافية، وأندية رياضية، ولجان عمالية في مناطق النفط «حيث تعمل شركات النفط الأمريكية»، على غرار ما هو قائم في البلدان الخليجية والعربية المجاورة، وإلى جانبها بدأت تتشكل بواكير الصحافة السعودية، واللافت هنا هو منسوب الحرية المرتفع نسبيًا، والتعددية الثقافية والفكرية التي كانت تتمتع بها تلك الصحافة في فترة الخمسينيات، وحتى أوائل الستينيات، علمًا بأن أغلبيتها توقفت لأسباب مختلفة، وبالطبع لا يمكن تجاهل التقدم والتطور الذي أحرزته الصحافة السعودية على هذا الصعيد حتى وقتنا الحاضر.
بفضل الثروة النفطية الهائلة، استطاعت المملكة تحقيق إنجازات نوعية على كافة الأصعدة والمستويات الاقتصادية والخدماتية والتعليمية والصحية، وذلك خلال فترة تاريخية قصيرة لا تتجاوز نصف القرن، جرى خلالها انتقال وتطور نوعي للسكان من حالة التخلف، البداوة، الأمية، انعدام الأمن، الجهل، والفقر إلى حالة من الاستقرار والأمن والإنتاج الحديث، كما اتسع نطاق التعليم بمختلف مراحله، حيث انخفضت نسبة الأمية إلى نحو 15 في المائة فقط من مجموع السكان، وتطورت البنية التحتية، وظهرت مدن جديدة، ونمت المدن والحواضر القديمة، ما أدى إلى تزايد معدلات الهجرة من الريف والبادية إلى المدن، ويشكل سكان المدن «الحضر» في الوقت الحاضر ما يزيد على 80 في المائة من إجمالي السكان، ويعد معدل النمو السكاني في المملكة هو الأسرع في العالم، حيث يتراوح ما بين 3 و3,5 في المائة سنويًا، في حين أن أعمار 60 في المائة منهم هم دون العشرين. للحديث صلة..