حتَّى أنتَ يا بروتس!!
للأمية وجوه كثيرة. وإذا كان الواقع نصاً أو شبيهاً بالنص، فإن الإخفاق في قراءة أحداثه وتقدير نتائجها، شكل من أشكال الأمية. وأمية بعض المحسوبين على الثقافة أسوأها جميعا.
وإذا كانت الكِياسة هي القدرة على التمييز بين الحقيقي والزائف، أو بين الصواب والخطأ، فإن الإخفاق في تقدير ذلك بشكل صحيح مناقض للثقافة بوصفها كِياسة.
قديما كانوا يحذرون من أنصاف المثقفين. أما اليوم فقد يشمل التحذير «المثقف كامل الدسم». هذا التعبير الظريف المقوَّس عنوان كتاب للكاتب العماني ماهر الزدجالي.
ويبدو الإخفاق واضحا حين تصبح المواقف مناقضة للأفكار، إِمَّا عن غفلة أو عن معرفة ودراية. وفي هذه الحال يتداعى إلى الذاكرة بيت الشعر القائل:
«فإن كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ *** وإن كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ».
مع ذلك يمكن توقع أو تفهم تلك الغفلة من شخص عادي أو مثقف «منزوع الدسم» لكنها غير متوقعة أو مقبولة من مثقف «كامل الدسم»، باعتباره عماد ما يسمى البنية الفوقية للمجتمع. أما إذا كان الموقف مزيجا من الدراية والانتهازية فإن «المصيبة أعظم».
ستكون الصدمة، عندئذ، شبيهة بصدمة الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر وهو يهتف قائلا: «حتَّى أنتَ يا بروتس»! لقد توارثت هذه العبارة الأجيال لتعبر عن الدهشة، وتصدّع الثقة، وانهيار التوقعات، وتداعي الآمال.
ويختلف بروتس في هذا السياق عن تلك الشخصية التاريخية التي اقترن ذكرها بيوليوس قيصر في المشهد التراجيدي التاريخي المعروف. إن بروتس، هنا، هو ذلك المثقف الذي راح ينأى بعيدا عن الأفكار والقيم التي دافع عنها طويلا، بعد أن استدرجته الأحداث إلى أجوائها ورطانتها السائدة. وقد بدأنا نردد عبارة القيصر كثيرا منذ أن تطورت وسائل الاتصال، وكشفت مواقع التواصل الاجتماعي المستور، وفضحت المسكوت عنه من الآراء. ويبدو أننا سنردد تلك العبارة كلما هوى نجم من علوٍّ شاهق.
في مثل هذا الوسط الصاخب، تتحول القدرة على الرؤية وقراءة الواقع قراءة ذكية إلى حالة من الاغتراب، ويتحول الاغتراب إلى رغبة في الاحتفاظ بالأفكار التي لا تجد لها تربة مناسبة لتنمو فيها، وذلك «عندما يكون التناغم بين رنين أصواتنا والرنين الخارجي معدوما» حسب تعبير ساميا ساندري مؤلفة كتاب «الصوت»، أي حين تصبح النغمة الجميلة في نظر الآخرين نشازا، وحين تحتل الأمية مساحة ثقافية وإعلامية واسعة، ويصبح الخُوَار «بالخاء» كلاما حكيما. عبَّر أبو العلاء المعري عن هذا المأزق بقوله: «رأيتُ سكوتي متجراً فلزمته*** إذا لم يفدْ ربحاً، فلستُ بخاسر»!