لماذا نقرأ؟
انتشرت في الآونة عناوين فرعية توجه كلها نحو نوع معين من القراءة، مثل لماذا نقرأ الرواية؟ لما نقرأ القصص؟ لنقرأ الفلسفة وغيرها من العناوين التي توجه المتابع المهتم نحو تلك الغاية المتسربلة في نواحي فكره والتي تدفعه للانخراط ضمن تلك المضامين الفرعية رغبة لإشباع جزءً من التساؤلات الملحة، وقد لا تكون هناك أجوبة تسد منافذ تلك التساؤلات بالشكل المطلوب، لأن تلقي الفكرة من غير تجربتها لا تحقق المسعى المنشود.
لذلك لنستقطب هدف القراءة بشكل شامل، فإننا نضم كل التساؤلات الفرعية في سؤال رئيسي، لماذا نقرأ؟ لن تكون الأجوبة متشابهة للقراء وستختلف آراءهم وأسبابهم، وحقيقة لن تجد في أي كتاب أو خطاب يوجه نفس السؤال يقدم جوابا واحدا، إنما سيكون هناك الكثير من الآراء حول القراءة والسبب للتوجه إليها، لكن يُجْمِع الكل أن فعل القراءة يكون دافعه الاكتشاف أو التسلية.
البعض يفضل قراءة الكتب الأدبية أو الفكرية أو العلمية ونحوه، لكل منا نحن البشر اختيار معتمد على ميولنا أو توجهنا أو رغبتنا، وآخرين يقرءون كل شيء لأنهم شغوفين بالقراءة، ومنهم الروائي الأمريكي وليام فوكنر الذي يقول ”اقرأ، أقرأ، اقرأ، اقرأ، كل شيء، الهراء والكلاسيكيات، الغث والسمين، وتبصر كيف يفعلون ذلك، بالضبط مثل نجار يعمل كمتدرب مبتدئ ويتعلم من معلمه. اقرأ، لأنك ستتشرب بكل ما تقرؤه ومن ثم اكتب. فإن كان جيدا، ستكتشف ذلك وإلا، فألق به من النافذة“.
فوكنر كان مبتغاة من القراءة أن يكتسب مهارة التأليف فيبصر خفايا الكتابة وأساليبها كنجار متدرب، ولا يخفى أن النجارة تحتاج إلى الدقة في العمل واختيار الخشب والأدوات المناسبة لابتكار تصميم يأسر الناظرين، كذلك الكتابة بجميع أنواعها ابتكار حذق، ومنها الرواية التي يتهافت إليها القراء بمختلف مستوياتهم الثقافية والعمرية، ولا يخفى على القارئ الحصيف أن كتابة الرواية من الفنون الأوروبية التي لها خاصيتها المميزة في سحب المهتمين بها إلى سبر أغوارها والتأمل في حبكتها والتأثر بلغتها والانغماس في فكرتها وهدفها.
يرى الروائي ميلان كونديرا أن الرواية تقدم تساؤلات مجهولة لا يمكن للقارئ اكتشافها، كما في عالمها يخلق الراوي ما يشاء من الأبطال التي لا تعرف حقيقة سلوكها لكن من خلال السرد يُفهم المنطوي عليه هذا الفعل، فيقول ”إن كل روائي يؤلف كتبه، على الأرجح كفرضية كبرى، كسؤال يُقذف في وجه العالم. سأسأل طبعا: ومن سيجيب عن ذلك السؤال؟ هنالك دائما ما يكفي من الحمقى كي يجيبوا، فالحمقى يعرفون كل شيء! إن حكمة الرواية تكمن بالضبط في جهلها“ ويؤكد كونديرا فن الرواية قائلا ”الرواية هي جنة الأفراد المتخيلة. إنا الأرض التي لا أحد فيها يمتلك الحقيقة. وحيث من حق الجميع أن يُفهم“.
من الملفت دائما في الروايات الأوروبية أنها تثير التساؤلات وتبهر بالأفكار المتفرقة التي تتطرق إلى قضايا اجتماعية تشاكس القارئ وتلج به إلى علوم ثرية حسب توجه المؤلف من فلسفة أو تاريخ أو علم نفس وغيره، كما أن الراوي الأوروبي حريص دائما أن يبدع لأن القارئ الأوروبي يمتلك اطلاعا واسع وتذوق محترف.
إذا لماذا نقرأ؟ هذا التساؤل الذي لا يمكن إغفاله، يمكن أن نجيب عنه بتوجس كاتب ينوي أن يصل إلى نهاية باهرة لروايته، نحن البشر في حالة رفض للعالم القائم، مما يكَّون لدى البشر قلق وعدم رضا عن حياتهم، كما يشعر البشر بوجود نقص ما في نفوسهم أو أفكارهم أو أرواحهم لذلك هم يحاولون يخلقون من فضاء الكلمات عالم موازي للاستقرار النفسي أو السعادة الأبدية أو تعويض الناقص من خلال ما يقرؤون يتلمسون ذلك.