آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

«لا يجوع الضب ولايفنى السمك»

ناصر موسى الحسين صحيفة الوسيل القطرية

أثارت ظاهرة نفوق الأسماك التي شهدها ساحل «جون» بدولة الكويت كثيرًا من الجدل والاتهامات المتبادلة، وأشاعت حالة من القلق على امتداد السواحل خاصة القريبة منها. ورغم تقليل البعض من أهميتها بالنظر إلى مسبباتها الطبيعية - حسب ادعائهم - لكنها تظل ظاهرة غير صحية تحتاج إلى المعالجة أيًا كانت المسببات. الحادثة ليست الأولى «ولن تكون الأخيرة» فقد تكررت خلال العقود الماضية، غير أنها طالت هذه المرة أنواعًا مختلفة من الأسماك وبكميات مقلقة. نفوق الأسماك ليس سوى «قمة جبل جليدي»، فقد تعرضت مياه الخليج لانتهاكات عدة، فمن جهة قضى الدفن على مساحات كبيرة من البحر بحجة التمدد العمراني ومواجهة ارتفاع الطلب على البناء، وهي حجة تافهة، فالأراضي البيضاء شاسعة، إلا أنه يقال إن البيئة البحرية أقل أهمية من البرية، وأن الضب أهم من السمك، أو أن الشجيرات البرية أهم من المانجروف. يصف أحد الخبراء الدفن بأنه «يشكل الضرر الأكبر على البيئات البحرية، فإن كان التلوث يضغط على البيئة البحرية فإن الردم يقتلها تماما». وإذا كنا عاجزين عن مواجهة هذا الشكل من التعدي، وهي مشكلة ليست قاهرة، فنحن أعجز عن مواجهة الأشكال الأخرى. كما طالت التعديات أشجار المانجروف الذي يشكل نظامًا بيئيًا متكاملًا للكائنات البحرية، وهي أشجار لا تعود للظهور بعد إزالتها، وفي أفضل التقديرات فإنها قد تنمو بمعدل مليمتر واحد فقط كل 10 سنوات. وتمنع القوانين والأنظمة البيئية العالمية إزالتها، بل تدعو إلى استزراعها. ومن بين الملوثات مخلفات الصرف الصحي والصرف الصناعي والتلوث الحراري والإشعاعي والمخلفات الزراعية، ناهيك عن المخلفات الصلبة الطافية على السطح والمترسبة في القيعان. هناك خطر آخر كبير هو الملوثات النفطية، ومسبباته متعددة وكثيرة بحجم ما تحمله ناقلات النفط عبر الخليج. وتعد التسربات النفطية بسبب حرائق الناقلات في عرض البحر، وتآكل هياكلها، وكذلك عمليات تطهير خزاناتها، وما يعرف بمياه الموازنة الملوثة بالنفط، حيث تُملأ خزانات الناقلات بالمياه، بما لا يقل عن 60% من سعتها من أجل الحفاظ على توازنها خلال رحلة العودة. نحن أمام مشكلة مركّبة، إحدى عقدها تتعلق بالمنظار الذي ننظر من خلاله إلى البيئة، فالبعض ينظر إليها على أنها مصدر للمال أو لخسارته، فالمال هو المحور.

وهناك منظار آخر استخدمه مسؤول بيئي عندما تحدث عن كارثة جون قائلًا «سنفتح الملف على مصراعيه، وسنقوم بدعوة جميع الأطراف المعنية، لاسيَّما أن شهر رمضان على الأبواب والسمك من ضمن مائدة الكويتيين المهمة»، فهذه زاوية أخرى تختزل الكارثة في وجبة إفطار رمضاني. وفي الاتجاه نفسه يرى أحد المسؤولين أن الأهم من كون البحر «طريقًا للنقل وخزانًا للغذاء» هو أنه «احتياطي مهم للمعادن القابعة في قيعانه».. هكذا ينظر البعض إلى البيئة باعتبارها مصدرًا للمال وموردًا للثروة ليس إلا.. ثم نتعجب من كل هذه التعديات والانتهاكات بحق الأرض والبحر والفضاء. واقعنا يؤكد وجود خلل كبير في منظومة الحفاظ على البيئة التي تبدأ من التوعية مرورًا بالدراسات، وبسن الأنظمة ومتابعتها، وبتطبيق البرامج والتطوير، ولا تنتهي عند الرقابة ومحاسبة المقصرين والمعتدين. وأيًا ما كان الدافع للاهتمام بالبيئة، سواءً كان المال أو الرغبة في مشاهدة سواحل نظيفة، أو مجرد سمك على مائدة رمضانية، فإنه سيكون اهتمامًا محترمًا إذا كان الخيار الآخر هو التفريط بها. وإذا كان البعض يولي البر اهتمامًا بيئيًا أكبر فلا بأس أيضًا، ولكن يمكن لهؤلاء أن يحترموا البحر ويتبعوا سياسة «لا يجوع الضب ولا يفني السمك».