آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

التسامح كتفهم، خارطة مقترحة

مجتبى آل عمير *

ملّ أغلبنا - أو جميعنا - الكلام وإعادة الكلام عن باقة مواضيع الطائفية التي من ضمنها موضوع التسامح، وقد نظن بعد ذلك أن لا جديد يذكر ولا قديم يعاد، لكن الواقع هو الواقع، وما دام يؤثر فينا فعلينا أن نتصدى له، فلا مفر من المحاولة، ولا نهاية للأمل، ولا يُتوقع ولا يتطلّب من أي فرد منا - ولا اثنين ولا مئتين - أن يُنهي بكلامه أو عمله معضلة معقدة كالطائفية، وإنما هي مقاربات ومساهمات، وفي هذا السياق، أحاول هنا طرحَ أطر مختلفة - نوعًا ما - لتوجيه الجهد الشبابي خصوصًا نحو المساهمة في صناعة مجتمعات عربية أكثر تسامحًا.

قبل تحديد الحلول، أجد من الضروري نقاش نقطتين، أولها المعنى المراد من التسامح، ويمكنني هنا تعريفه - استنادًا بالأساس إلى دوره في واقعنا - بأنه عدم الكراهية عند الاختلاف، والكراهية هنا هي المشاعر السلبية المعروفة والتي تتمثل عمليًا في إيذاء الطرف المكروه أو الفرح بأن يتأذى أو حتى في تجاهل معاناته والتنكر لها، والاختلاف هنا في المقام الأول هو الاختلاف في الرأي، ويدعم هذا التعريفَ إعلان مبادئ التسامح الذي اعتمدته اليونسكو عام 1995، والنقطة الثانية هي مدى تأثير التسامح في الحد من الأزمة الطائفية في مجتمعاتنا، ويمكنني القول أن كراهية المختلف هي على أقل تقدير أداةٌ تستخدمها القوى المتصارعة للتأليب والتحريض ضد خصومها، وبالتالي فهي تأججها عند الحاجة لمزيد من التأليب، ومن هنا فإن نمو التسامح سيحد من فاعليتها كأداة فتنة.

الفكرة الأساسية في هذا المقال هي أن التفهّم هو منبع التسامح وأصله والسبيل إليه، والتفهم هنا هو ليس مجرد معرفة الموقف المختلف المعين، وإنما فهم دوافعه وأغراضه، أي جواب سؤال لماذا من وجهة نظر صاحب الموقف نفسه، والتفهم مهم لأن الكراهية - في الرأي - ليست إلا نتيجة سوء الظن وسوء التفاهم، فعندما أظن أن صاحب الرأي السياسي المختلف يريد - برأيه المختلف هذا - خيانة الوطن أو ما شابه، أو أن صاحب الرأي الديني المختلف إنما ينطلق من حبه للشهوات وهكذا، هذه النظرة هي أساس شيطنة المختلف وبالتالي تبرير كراهيته وعدائه شعوريًا ثم - بالضرورة - عمليًا.

وهنا أطرح ثلاث سبل رئيسية أجدها من أنجع الوسائل نحو بث المزيد من التفهم وبالتالي المزيد من التسامح: النقد الذاتي، التعايش المستدام، التعارف الموضوعي.

قد يبدو مستغربًا للكثيرين ربط التسامح بالنقد الذاتي، ولتوضيح هذا الربط فلنلق نظرة على أي فئة من التي يمكن أن نعتبرها من الأكثر تشددًا وكراهية للآخر؛ سنجد واضحًا أنها تتميز ويبرز فيها وهْم التفوق والصفاء والكمال وكأنها هي من دون غيرها تعرف الحق وتتبعه، ولا ترى في مسيرتها - أي أفكارها ومواقفها وأفعالها - إلا كل خير ولا في مسيرة غيرها إلا كل شر، ومن هنا فعندما لا يرى أفراد كهذا فئات أيّ شائبة في أفكارهم ومواقفهم - المحقة بشكل جلي لديهم - لا يستطيع أن يفسر اختلاف من يختلف معه فيها بدون نظرة سلبية إما لعقولهم أو لضمائرهم، ودور النقد الذاتي هنا هو كسر هذه الهالة الزائفة حول مسيرة الذات الجماعية - الايديولوجية أو الطائفية أو غير ذلك - وتعرية أخطائها وخطاياها، وتبيين أن ما يمكن أن يعاب على الآخر قد يكون موجودًا لدى الذات، وما يمكن أن يُبرّر لدى الذات يمكن أن يُبرّر لدى الآخر، وما دمنا لا نشيطن الذات رغم أخطائها فلا يجوز أن نشيطن الآخر بأخطائه، ولمزيد من توضيح هذه الفكرة يمكننا أن نرى الدور الذي يلعبه نقد المثقفين الغربيين لإرهاب الغرب أو إرهاب الحداثة في تعزيز تسامح الغربيين تجاه المسلمين مثلًا، هذا عن المسار الأول.

أما المسار الثاني هو التعايش المستدام، وكلمة المستدام هنا هي لب الفكرة، إذ التعايش - بمعنى العيش المشترك بين المختلفين - لا يبنى دون تسامح، إذ لا يُتصوّر عيش مشترك - يتضمن ما يتضمنه العيش الطبيعي من التواد والتكافل - بين المتكارهين المتعادين الذين يتربص بعضهم الشر بالبعض الآخر، لكن النقطة هنا هي أن التسامح حينما يجهز الأرضية الخصبة للتعايش فإن التعايش يمكن أن يكون بدوره جزءًا من عملية إعادة إنتاج التسامح، إذ بالعيش المشترك - وكلما كان أكثر اندماجًا - تقترب الهموم والمشاكل وتتنقل الأفكار ويسهل على كل طرف تمثّل الآخر فهم وتفهّم مواقفه، والتعايش المستدام الذي نقترحه يتجلى في طريقين رئيسيين، أولهما المجتمع المدني بمعنى كل تجمع يتعاون فيه أفراد لعمل فيه إسهام للمجتمع سواء كان فنيًا أو فكريًا أو اجتماعيًا أو أبعد من ذلك، ففي هذا الوسط المفتوح إذ تقترب الأهداف وتتظافر الهمم وتتبادل الهموم من الطبيعي أن تقترب العواطف وينتشر الإحساس والفهم المتبادل، والعامل الثاني والأهم لاستدامة التعايش هو غرسه في البنية الاجتماعية الأساسية أي العائلة، وذلك بكسر حاجز الزواج من ”الآخرين“ وتكوين أسر متجاوزة للجماعة العضوية «سواء كانت جماعة رأي بالأساس أو جماعة متقولبة حول رأي»، وبالتالي إنشاء أجيال بمناعة أولية عضوية عن كراهية هذه الأطراف، وإرجاع الاختلاف في الرأي إلى حقيقته بدلًا من تحوله حاليًا إلى اختلاف بين جماعات مغلقة، ويؤدي ذلك على المستوى البعيد إلى كسر انغلاق الجماعات وإلى بنى اجتماعية لا يخضع فيها تفكير الفرد إلى الآراء الجاهزة والمحدودة والمنحازة لجماعته، ويسهل على الفرد رؤية أطراف الخلاف من موقع أكثر حيادًا، وبالتالي فهم المواقف وتفهمها، وأيضًا - إضافة على ذلك - اتخاذ مواقف أكثر عقلانية منها.

المسار الثالث هو التعارف الموضوعي، أي محاولة كل طرف التعرف على آراء الأطراف الأخرى بموضوعية، أي كما يقولونها ويبررونها هم أنفسهم، وهنا يأتي الدور الأهم في هذا الجانب وهو محاولة كل طرف عرض آراءه وتفصيلها هو بنفسه بطريقة موضوعية تخاطب المخالف والمؤالف بدون دس أغراض تبشيرية - وهذا ليس خطأً في نفسه - بل لتطبيق قيمة ”لتعارفوا“ القرآنية ولتحقيق التفهم المنشود، وإذا كنا نرى في هذا السياق بعض التعريف والتعرف عند النخب فإنا لا نكاد نلاحظه عند جمهور الناس الذين قد يكون موقفهم المحتقن عائقًا حتى للنخب - كما يحدث كثيرًا - من إبداء مواقف أكثر تسامحًا باتجاه الأطراف الأخرى، وعند التعرف الحقيقي على الأطراف الأخرى تنجلي لدى الأطراف الصورة الحقيقية للطرف الآخر ومسيرته، غير المشوهة والمحرفة المنحازة ضده والتي تتداولها الجماعات المغلقة بين أفرادها، وتبدو لهم الاختلافات والخلافات - عادةً كما أعتقد - شكلية وتفصيلية وليست جوهرية مبدئية.

”الشيء الأخلاقي الذي أتمنى قوله لهم هو بسيط جداً. أود أن أقول: الحب حكمة والكراهية حُمق. في هذا العالم الذي يترابط أكثر وأكثر بشكل وثيق، علينا أن نتعلم التسامح مع بعضنا البعض. علينا أن نتعلم التصالح مع حقيقة أن بعض الناس قد يقولون ما لا نحب. بهذه الطريقة فقط نستطيع أن نعيش معاً. ولو أردنا العيش معاً - لا الموت معاً - فإنه يتوجب علينا تعلم شيء من الإحسان والتسامح، الأمر الذي يعتبر حيوياً للغاية لاستمرار الحياة البشرية على هذا الكوكب“. 1

1 الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في إحدى مقابلاته - التي أجريت وهو في عامه التسعين - عندما سُئل عن الرسالة التي يوجهها للأجيال القادمة.