«النشأة والأسس والمرتكزات»
نظرية تعارف الحضارات للمفكر ”زكي الميلاد“
”زكي الميلاد“ صاحب فكرة تعارف الحضارات، هو من المفكرين البارزين فقد أعطى لفلسفة الحضارة وما يتصل بها من موضوعات كالمسألة الحضارية قيمة كبيرة، فما هي المنطلقات الفكرية ”لزكي الميلاد“ في نشأة هذه فكرة تعارف الحضارات؟ وما هي أهم الأسس والمرتكزات التي اعتمدت عليها؟
التعارف بين الأمم والشعوب في نظر ”زكي الميلاد“ هو أن تعرف كل أمة أحوال الأمم الأخرى، ظروفها ومشاكلها وحاجياتها، وتفوقها ومشاريعها ومنجزاتها إلى غير ذلك، وهذا الذي يجعل من التعارف يحقق أهدافه بين الأمم والشعوب، وقد احتلت فكرة تعارف الحضارات مكانة مرموقة في أوساط المفكرين والباحثين عربا ومسلمين.
في كتابه «تعارف الحضارات» يحدثنا ”الميلاد“ عن علاقته المبكرة بفكرة الحضارة وكيف تطورت هذه العلاقة، فقد كان شغوفا بفكرة الحضارة منذ وقت مبكر، وكان يستهويه مطالعة كل كتاب يتحدث عن الحضارة فكرة أو تاريخا.
وعند مطالعته لكتاب «من أجل حوار بين الحضارات» لمؤلفه ”روجيه غارودي“ تأثر بهذا الكتاب، ويرى بأنه بالرغم من أن فكرة حوار الحضارات كانت فكرة بديعة وخلاّقة، إلا أنها لم تكن لها صدى واهتمام واضح في العالم العربي.
ومع ظهور فكرة «صدام الحضارات» لصاحبها ”صامويل هنتنغتون“، وجد ”الميلاد“ أن هذه المقولة أصبحت من أكثر المقولات نقاشا وتداولا بين مختلف ثقافات العالم، لأنها تبشّر بعصر أشدّ خطورة من عصر الحرب الباردة، وبانقسامات حادة على مستوى الحضارات. على ضوء هاتين المقولتين اللتين كان لهما صدى في الكتابات والأدبيات والإعلاميات، برز تساؤل: لماذا لا تكون هناك نظرية إسلامية تتعلق بمجال العلاقات بين الحضارات؟
وبعد تأمل كبير توصل ”زكي الميلاد“ إلى أن هناك آية تحث على التعارف، وهي الآية الثالثة عشر من سورة الحجرات: ﴿يَٰٓا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَروَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ﴾. وقد أعطاها الميلاد تسمية آية التعارف، فهي آية تخاطب الناس كافة، حينما جعلهم ”الله“ شعوبا وقبائل. والمقصود هنا بالشعوب والقبائل هم التجمعات والمجتمعات الصغيرة والكبيرة، ويدخل في هذا المعنى الأمم والحضارات، والذي جاز ”للميلاد“ استعمال هذا المفهوم على مستوى الحضارات، ومن هنا جاءت وتبلورت فكرة تعارف الحضارات.
وعن بدايات نشأة فكرة تعارف الحضارات يقول ”الميلاد“: في صيف 1997م، نشرت مقالة مطولة بعنوان «تعارف الحضارات»، وكانت هذه أول محاولة في نحت واستعمال هذه التسمية، التي دخلت المجال التداولي العربي منذ ذلك الوقت، وظلّت تتموج وتتّسع بوتيرة متصاعدة وما زالت محافظة على هذه الوتيرة إلى اليوم.
وحينما دعيّ للمشاركة في الندوة الدولية حول «الإسلام وحوار الحضارات» نظمتها في الرياض مكتبة الملك ”عبد العزيز“ العامة سنة 2002م، قدّم ورقة بعنوان: «من حوار الحضارات إلى تعارف الحضارات»، ختمها بالإشارة إلى تحديات الإنماء المعرفي، وما يعترض المفاهيم والنظريات التي تأتي من المجال العربي في انتزاع الاعتبار العلمي والجدارة العلمية ليس من الغرب فحسب، وإنما من داخل العالم العربي أيضا.
وفي سنة 2006م أصدر كتابا يحمل التسمية نفسها «تعارف الحضارات»، جمع فيه المقالات والكتابات التي تناولت هذه الفكرة، وتطرقت إليها، وتحدثت عنها، واتخذت من تعارف الحضارات عنوانا لها.
تستند فكرة تعارف الحضارات عند ”زكي الميلاد“ إلى أسس دينية وفلسفية، وتتحدد هذه الأسس على النحو الآتي:
يفترض في نظر ”الميلاد“ أن يكون للتصور الإسلامي رؤية أو مفهوما يُحدّدُ شكل العلاقات مع الأمم والمجتمعات والحضارات الأخرى، والمفهوم الذي يتوصل إليه في هذا المجال، ويزداد ثقة به وبقيمته المعرفية والأخلاقية والإنسانية هو مفهوم «التعارف»، ويستند هذا المفهوم إلى أصل في القرآن الكريم، الكتاب الذي خاطب الناس كافة، وجاء رحمة للعالمين، وتحدد هذا الأصل في آية التعارف في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾. «الحجرات: 13».
والتأمل في هذه الآية يكشف لنا حسب قول ”الميلاد“ عن حقائق كلية ذات أبعاد إنسانية عامة، يتوصل منها لمفهوم يصطلح عليه بتعارف الحضارات. والتعارف هو المفهوم الذي حاولت هذه الآية تحديده وتأكيده وإبرازه والنص عليه، وذلك من خلال سياق وخطاب يؤكد على قيمته وجوهريته، ليكون مفهوما أساسيا، وذلك بالاستناد إلى الحقائق التالية:
أولا: الخطاب في سورة الحجرات متوجه بشكل صريح إلى المؤمنين في بداية السورة وفي خاتمتها، باعتبارها من السور المدنية، إلا في هذه الآية الثالثة عشرة إذ توجه الخطاب إلى الناس كافة بصيغة ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ﴾، الأمر الذي جعل بعض المفسرين يعتبر هذه الآية مكيّة، وكون الخطاب متوجها إلى الناس كافة فهو ناظر إليهم بكل تنوعهم وتعددهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم، وإلى غير ذلك من تمايزات ومفارقات.
ثانيا: التذكير بوحدة الأصل الإنساني في قوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَروَأُنثَىٰ﴾، فالناس مع كل اختلافاتهم وتعددياتهم وتباعدهم في المكان والأوطان، إنما يرجعون في جذورهم إلى أصل إنساني واحد. والقصد من ذلك أن يدرك الناس كما لو أنهم يمثلون أسرة إنسانية واحدة على هذه الأرض الممتدة.
ثالثا: الإقرار بالتنوع الإنساني في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَآئِلَ﴾، وهذه حقيقة اجتماعية وقانون تاريخي، ”فالله“ سبحانه وتعالى بسط الأرض بهذه المساحة الشاسعة لكي يتوزع الناس فيها شعوبا وقبائل، علما أن القرآن الكريم لم يذكر في كل آياته عبارة ﴿شُعُوبا وَقَبَآئِلَ﴾ إلا في هذه الآية.
رابعا: خطاب إلى الناس كافة، وتذكير بوحدة الأصل الإنساني، وإقرار بالتنوع بين البشر، فتنوع الناس إلى شعوب وقبائل وتكاثرهم وتوزعهم في أرجاء الأرض، لا يعني أن يتفرقوا، وتتقطع بهم السبل، وإنما ﴿لِتَعَارَفُوٓاْۚ﴾. وأن التعارف بين شعوب وقبائل أي بين مجتمعات وجماعات، لذلك جاز لنا استعماله في مجال الحضارات، الاستعمال الذي نتوصل منه إلى مفهوم واصطلاح «تعارف الحضارات».
خامسا: انطلاقا من قاعدة التفاضل والمقارنة، تساءل ”الميلاد“ لماذا لم تستخدم الآية كلمة لتحاوروا، أو لتوحدوا، أو لتعاونوا، إلى غير ذلك من كلمات الترابط التي تتصل بهذا النسق، ويأتي التفضيل لكلمة «لتعارفوا»؟ وهذا هو مصدر القيمة والفاعلية في مفهوم التعارف، فهو المفهوم الذي يؤسس للمفاهيم المذكورة «الحوار، الوحدة، التعاون»، ويُحدد لها شكلها ودرجتها وصورتها، وهو الذي يحافظ على فاعليتها وتطورها واستمرارها، هذا من جهة الإيجاب. أما من جهة السلب فإن التعارف كمفهوم وفاعلية بإمكانه أن يزيل مسببات النزاع والصدام.
في الأسس الفلسفية حاول زكي الميلاد المقارنة والمقاربة بين مفهوم تعارف الحضارات، ومفهوم التواصل عند ”هابرماس“ المفهوم الذي ينتمي إلى المجال الفلسفي، وحسب رأي ”الميلاد“ أن مفهوم التعارف يلتقي مع مفهوم التواصل في نسق معرفي مشترك. فكلاهما يتضمن بناء الجسور، والوصول إلى الآخر وتجاوز الذات أو فلسفة الذات حسب تعبير ”هابرماس“، ويفترقان من ناحية المجال، فالتواصل لأنه يرتبط بمجال المعرفة، أو هكذا حاول ”هابرماس“ ربطه فتحددت علاقته بالعقل فهو تواصل بين العقول، واستنهاض طاقات العقل وتحريكها في علاقة تفاعلية بين الناس. أما التعارف فيرتبط بمجال الاجتماع فتحددت علاقته بالمجتمع والناس.
من جهة أخرى يضيف الميلاد فإن التعارف يتضمن مفهوم التواصل، فليس هناك تعارف بدون تواصل، لكنه يتجاوزه، بمعنى أن التعارف أوسع وأشمل منه، أما التواصل فقد يكون بتعارف أو بدون تعارف. والتعارف هو المفهوم الذي حدّده القرآن الكريم لشكل العلاقة بين الناس بعد أن توزعوا شعوبا وقبائل.
والتجاور بين فكرة تعارف الحضارات، وفكرة التواصل ينطلق في نظر ”الميلاد“ من الخلفيات الآتية:
أولا: إن المقاربة بين المفهومين تنطلق أساسا من خلفية انتساب مفهوم التواصل إلى حقل المعرفة الإنسانية، وليس بوصفه مفهوما غربيا متطبعا بالثقافة الغربية، ومتسلحا بالأيديولوجيا الأوروبية.
ثانيا: إن التواصل فكرة سهلة وبسيطة مع ذلك تحوّلت إلى نظرية عرف واشتهر بها ”هابرماس“ في المجال الأوروبي والإنساني عموما، وجرّت نقاشات فكرية وفلسفية لم تنقطع إلى اليوم. وهذا يعني أن فكرة تعارف الحضارات يمكن أن تتحول إلى نظرية لا تقل أهمية وقيمة في المحتوى الفكري والأخلاقي والإنساني من نظرية التواصل، خاصة وأن فكرة التعارف تستند إلى أصل متين يرجع إلى القرآن الكريم، والذي هو أصل الأصول عند المسلمين كافة.
ثالثا: بإمكان هذه المقاربة تقريب الكتّاب والباحثين والمثقفين عموما من فكرة تعارف الحضارات، بوصفها فكرة جديدة بحاجة إلى نوع من العناية والالتفات، وإلى تكثيف النقاش حولها، ودفعها نحو المجال التداولي.
على ضوء آية التعارف تحددت عناصر ومرتكزات تعارف الحضارات، ولمعرفة مضامين وأبعاد هذه الآية، حاول ”الميلاد“ دراستها بطريقة تحليلية أولا، لمعرفة عناصرها ومكوناتها التجزيئية، ومن ثم دراستها بطريقة تركيبية ثانيا لمعرفة عناصرها ومكوناتها العامة، وبشأن الطريقة التحليلية يمكن الكشف عن العناصر والمكونات الآتية:
أولا: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ﴾ جاءت هذه الآية بصيغة النداء، وهذا النداء موجه إلى الناس كافة، والناس هو المصطلح الذي استخدمه القرآن الكريم في التعبير عن اسم الجنس الإنساني.
ثانيا: ﴿إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَروَأُنثَىٰ﴾، والمعنى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من رجل وامرأة لا تفترقون من هذه الجهة، والاختلاف الحاصل بالشعوب والقبائل، هو اختلاف راجع إلى الجعل الإلهي، ليس لكرامة وفضيلة، وإنما لتعارفوا فيتم بذلك اجتماعكم.
ثالثا: ﴿وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَآئِلَ﴾، الشعوب جمع شعب، أي الجماعة الكبيرة من الناس الذي يصدق عليهم ما هو متعارف عليه في تقسيم الأمم والمجتمعات إلى شعوب، وقبائل جمع قبيلة، وهي أصغر من الشعب.
رابعا: ﴿لِتَعَارَفُوٓاْۚ﴾، إن الشعوب والقبائل مهما تعددت وتشعبت على امتداد مساحة الأرض المترامية الأطراف، إلا أنها مطالبة بالتعارف فيما بينها، كمبدأ في العلاقات المحلية والدولية، الداخلية والخارجية.
خامسا: ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾، إن القرآن الكريم يدعو الناس إلى التفاضل بالتقوى.
سادسا: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾، ذكر الدكتور ”أحمد الشرباصي“ أن العلماء فرقوا بين لفظي الخبير والعليم، فالخبير يفيد معنى العليم، ولكن العلم إذا كان للخفايا الباطنة سمي خبرة، وسمي صاحبه خبيرا. ”فالله“ سبحانه وتعالى عليم حينما خلق الناس من ذكر وأنثى، وما خلق لهم في هذه الحياة، وخبير حينما جعلهم شعوبا وقبائل، وفي كل ما قدر لهم.
بعد هذا التحليل التجزيئي للآية، حاول الميلاد دراستها بالطريقة التركيبية على شكل مستخلصات عامة، تشكل مرتكزات أساسية لمفهوم تعارف الحضارات، ومن هذه المستخلصات:
1 - إن القرآن الكريم هو خطاب إلى الناس كافة، وأن الخطاب لم يأت للناس في زمن دون آخر، ولا لمكان دون مكان آخر، أي أنه صالح لكل زمان ومكان.
2 - التأكيد على وحدة الأصل الإنساني ﴿إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَروَأُنثَىٰ﴾، فالإنسانية بكل تنوعاتها العرقية والقومية، اللغوية واللسانية، الدينية والمذهبية، وبكل تصنيفاتها الأخرى الاجتماعية والعلمية والاقتصادية، إنما ترجع إلى أصل واحد.
3 - إن القرآن الكريم يدعو الناس لأن ينظروا لأنفسهم بوصفهم أسرة إنسانية واحدة على هذه الأرض، مهما اختلفوا في اللون واللسان، ومهما تباعدوا في المكان.
4 - ضرورة أن يتعامل الناس فيما بينهم على أساس مفهوم الأسرة الإنسانية المشتركة أو الواحدة، وهذا يعني التخلص من الأحقاد والعصبيات والعنصريات والكراهيات بين الناس.
5 - إن التنوع والتعدد في الاجتماع الإنساني حقيقة موضوعية يؤكدها القرآن الكريم ﴿وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَآئِلَ﴾.
6 - يربط القرآن الكريم في هذه الآية بين وحدة الأصل الإنساني، وبين التنوع الإنساني، الربط الذي يفهم منه أن وحدة الأصل الإنساني لا تعني إلغاء التنوع بين الناس في أن يعيشوا شعوبا وقبائل. ومن بلاغة القرآن الكريم تقديم وحدة الأصل على قاعدة التنوع، لكي يكون التنوع متفرعا عن الأصل.
7 - استخدم القرآن الكريم كلمة «الخلق»، وكلمة «الجعل»، فما هو الفرق بين الخلق والجعل؟ الخلق يعني الإيجاد ابتداء من العدم، من غير صورة سابقة أو نسخ أو مثال، وهذا لا يجري إلا في حق ”الله“ جلّت قدرته. والإنسان لا يعد خالقا على الإطلاق في كل ما اكتشف واخترع، فالإنسان هو مجرد ناسخ من الطبيعة ومكتشف لقوانينها. أما الجعل فهو التقدير الذي يأتي بعد الخلق، ويتصل بتحديد الوظائف والخصوصيات، وما يترتب عليه الاقتضاء. و”الله“ سبحانه وتعالى خلق الذكر والأنثى لأنه العليم، وجعل الناس شعوبا وقبائل، أي قدر لهم ذلك لأنه الخبير. وحينما جعل ”الله“ الناس يعيشون شعوبا وقبائل، فإن هذا تقدير منه جلّت قدرته، ولهذا فإن البشر لا يمكن أن يعيشوا إلا شعوبا وقبائل.
8 - يؤسس القرآن الكريم مبدأ التعارف بين الأمم والشعوب والحضارات، والتنوع بين الناس إلى شعوب وقبائل، لا يعني أن يتفرقوا، وتتقطع السبل بينهم، وتعيش كل أمة في عزلة عن الأمم الأخرى، كما لا يعني هذا التنوع أو التعدد أن يتصادموا ويتنازعوا من أجل الثروة والقوة والسيادة وإنما لتعارفوا.
9 - لا يكفي أن يدرك الناس أنهم من أصل إنساني واحد وينتهي كل شيء، بل هم بحاجة إلى أن يتعارفوا، ويصل بهم مستوى هذا التعارف بالشكل الذي يتحقق بين الأسرة ذات الأصل الواحد، وبالشكل الذي يصل بالعالم إلى مستوى يعيش فيه الناس كما لو أنهم أسرة إنسانية واحدة ذات أصل إنساني واحد.
10 - من دون أن يكون هناك تعارف بين الأمم والحضارات، لن يكون هناك حوار ولا تعاون. إن التعارف له دور وقائي في إمكانية إزالة مسببات النزاع والصدام بين الأمم والحضارات.
11 - حينما تحدّث القرآن الكريم عن التعارف، فإن هذا المفهوم يستتبع معه جملة من المفاهيم المتصلة والمتفاعلة والمتكاملة معه، كالانفتاح والتواصل والسلام ومدّ الجسور، ورفض الانغلاق والقطيعة والكراهية، والتي هي شرائط التعارف من جهة تحققه.
12 - إن المقصود من التعارف هو المعنى الأعم والأشمل، يتجاوز الحدود السطحية المتعارف عليها، فهو تعارف على مستوى الأمم والمجتمعات والحضارات، وأن تتعرف كل أمة وكل حضارة على إمكانات وقدرات وثروات الأمم والحضارات الأخرى، إلى جانب معرفة الظروف والمشاكل والتحديات التي تحيط بهذه الأمم والحضارات، ومعرفة كل ما يتوقف ويترتب عليه التعارف في هذا النطاق.
13 - لا يلغي القرآن الكريم مبدأ التفاضل بين الناس، وبين الشعوب والقبائل، لأن التفاضل إنما يعبر عن واقع موضوعي لا يتعارض مع مبدأ العدل والمساواة. والذي حاول القرآن الكريم تغييره هو نوعية قيم التفاضل، بتغيير هذه القيم من قيم التفاخر بالأنساب والقوم والقبيلة والعشيرة والعرق، إلى قيم تربط الأمم والحضارات بالقيم العليا والسامية، ومحور القيم هو التقوى.
14 - لا تستطيع الأمم والشعوب أن تتعالى على الأحقاد والعصبيات إلا إذا التزمت بمبدأ التقوى.
15 - تتحدد شخصية كل أمة في كرامتها، والكرامة هي التعبير الحقيقي لوجدان كل أمة، وهي التي تشكل للأمم نظرتها إلى ذاتها، وإلى مكانتها وسيادتها وعزتها. وأكثر ما تصاب به الأمم حينما تتأثر في كرامتها، حتى قيل أن ألمانيا دخلت الحرب العالمية الثانية انتقاما من الإذلال الذي فرضته عليها دول الحلفاء بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.
16 - إن العلاقات والروابط بين الأمم والشعوب والحضارات في المنظور الإسلامي، ليست مجرّد مصالح ومنافع، وإنما ترتكز أيضا على القيم والآداب والأخلاق، والتقوى ترمز إلى منظومة القيم والأخلاق
17 - لن يستطيع العالم أن يعالج أزماته ومشاكله عن طريق السياسة، أو عن طريق الاقتصاد والعلم. فقد بات من المؤكد أن العالم بأمس الحاجة إلى منظومة من القيم والأخلاق، وهذا من أشد ما يفتقده العالم المعاصر.
18 - إن التقوى باعتبارها الإطار الجامع للقيم والآداب والأخلاق بإمكانها أن تزيل العصبيات بكل أشكالها العرقية والقومية والطبقية، وهذه العصبيات هي من أشدّ العوائق وسببا في انقسام الأمم والشعوب وتصادمها، هذا من جهة السلب. أما من جهة الإيجاب، فإن التقوى بإمكانها أيضا أن ترسخ التعارف وتحافظ على بقائه واستمراريته.
19 - من الحكمة أن يرتضي الناس وترتضي الأمم والحضارات ما يختاره ”الله“ سبحانه وتعالى لهم من سنن وقوانين وآداب وقيم وأخلاق في سعيهم لعمارة الأرض وبناء الحضارة، لأن ”الله“ هو العليم الخبير.
هذه بعض المستخلصات العامة من هذه الآية الكريمة، التي تكوّن بمجموعها إطارا يستند إليه في تأسيس مفهوم تعارف الحضارات، وكيف أن هذه الحقائق والمرتكزات على درجة من الأهمية والحيوية، بحيث تعطي لمفهوم تعارف الحضارات إمكانية التشكل والبناء المتماسك.
ومن هذا يمكن القول إن المفكر ”زكي الميلاد“ حاول أن يعطينا نظرة واضحة حول فكرته في تعارف الحضارات، وتوصل لهذه الفكرة من خلال تفحصه للآية الثالثة عشر من سورة الحجرات، فهي فكرة تنطلق من نزعة إنسانية عميقة هي التأكيد على وحدة للأصل الإنساني، والغاية منها هو أن ينظر الناس من أمم ومجتمعات وحضارات مختلفة كما لو أنهم أسرة إنسانية واحدة.
وقد لقيت هذه النظرية اهتماما في أوساط الباحثين والكتّاب والأكاديميين في العالم، وخاصة في العالم العربي والإسلامي، ويتضح هذا من خلال نشر الكثير من المقالات والدراسات، والندوات والحوارات، والمؤتمرات، وقد أنجزت حولها العديد من الرسائل والأطروحات.