شاعر الزهيري «الموّال» عيسى التاروتي في الميزان «1295 هـ - 1349 هـ»
الشاعر عيسى التاروتي لقب بلا تراث حقيقي
كنّا نسمع بشغف الطفولة البكر من آبائنا في جلساتهم، وأوقات فراغهم، للترويح عن أنفسهم، الحكايات الساحرة، والقصص الجميلة، والأشعار التي كانوا ينظمونها، أو يحفظونها، أو يسمعونها، ولعلّ أبرز اسم كنّا نسمعه على ألسنتهم في تلك الجلسات، اسم الشاعر «عيسى بن محسن التاروتي» رحمه الله، بالإضافة إلى غيره من الشعراء كحمد الحمود، ومحمد الرويعي، وراشد الفاضل، وفهد بن سالم، وغيرهم من شعراء جزيرة تاروت.
وكنّا نسمع أيضًا القصص الكثيرة عن الشاعر التاروتي وحياته، فهو «شاعر الخليح في فنّ الزهيري» حسبما يطلقون عليه، علمًا بأنّه كتب الأبوذية والعتابة وغيرهما بجانب فن الزهيري «الموّال».
وأظنّ أنّنا بحاجة لوقفة تأمّلية دقيقة، بعيدة عن العاطفة، وقفة حيادية، نترسّم من خلالها المنهج العلمي في الوصول إلى شاعريّة التاروتي، ومعرفتها معرفة حقيقية، فكم ألقاب أطلقت على أشخاص، وردّدها الآخرون دون تدبّر ولا تمعّن، وبتسليم خالصة، وجازمة بأحقيتها.
من هنا سأنطلق برحلة مع الشاعر التاروتي، معتمدًا على التحليل والمنطق؛ لنرى هل ما قيل عنه حول فنّ الزهيري ”الموّال“ صحيح، وأنّه شاعر الخليج الأوّل؟
نعلم بأنّ الشاعر التاروتي لم يطبع ديوانه في حياته، حاله في ذلك حال كثير من الشعراء؛ بسبب الظروف التي عايشوها، الأمر الذي يجعل جمعه فيما بعد صعبًا، وشاقًا.
ولعلّ أوّل من قام بجمع ديوان الشاعر عيسى التاروتي، هو الأستاذ عبدالله آل عبدالمحسن في عام «1986م»، وهذا الديوان هو الذي ضمّ مواويله، والقليل من الأبوذيّات والعتابات، ونحن سنعتمد على هذا الديوان؛ لأنّه الوثيقة الوحيدة المدوّنة التي تعرّفنا بالشاعر، وإن كانت هناك آراء، وروايات تخالف ما جاء فيه، ولكننا سنكتفي به مصدرًا وحيدًا لما نحن بصدده، وهو «فن الزهيري عند التاروتي»، أي بالنص الشعري، مبتعدين عن حياته، وسوف تتم المناقشة من خلال هذا المصدر المتوفر، فنقول:
أوّلًا: من خلال مطالعتي للديوان وجدت أنّه يحتوي على «115» موّالًا، منسوبة للتاروتي، منها «33» موّالًا، منسوبة إلى شعراء آخرين، أي ما يقارب الثلث من مجموع مواويله، ولو أردنا أن نحصي جميع الشواهد على ذلك سيطول بنا المقام، ولكننا سنكتفي ببعضها شاهدًا لما نقول، مقتصرين على مطالع المواويل، مع ذكر من شاركه في نسبتها، علمًا بأن بعض الكتب التي وجدت فيها المواويل المنسوبة إلى غيره هي أقدم من مؤلف كتاب التاروتي.
1» حالي نحل آه زادت علتي ودواي.
مذكور في ديوان الشاعر حسين بو رقبة ص 74.
2» ودعتكم بالسلامه يا ضوى عيني.
أورده عبدالله الدويش في كتابه ديوان الزهيري ص 98.
3» شمس الضحى غربن بعد الهنا والفاي.
أورده عبدالكريم العلاف في كتابه الموال البغدادي ص 42.
4» أجمال صبري على دار الحبيب أبراك.
مذكور في ديوان فرج بو متيوح ص88.
5» جربتهم بالغانمه ما هم وفوا امعاي.
ذكره مجموعة من الكتّاب في مؤلفاتهم، منهم: ماجد شبر في كتابه ”الأدب الشعبي العراقي“ ص 34، وعبدالكريم العلاف في كتابه ”الموّال البغدادي“ ص 29، وعامر رشيد السامرائي في كتابه ”موّالات بغدادية“ ص 238، والأب أنستاس ماري الكرملي في الجزء الأول من كتابه ”مجموعة في الأغاني العامية العراقية“ ص 279.
6» يا حسين دهري فرق ليماي جنبني.
مذكور في ديوان الشاعر حسين بو رقبة ص102.
7» الدهر لو زل زلاته كثيرة علي.
ذكره عبدالله الدويش في كتابه ”ديوان الزهيري“ ص 260، وهو من المواويل المشهورة وتتردد على لسان المغنين العراقيين.
8» ميزان لصحاب مايل والعدال ابعيد.
مذكور في ديوان الشاعر حسين بو رقبة ص54.
9» يا زين وياي بالفرقى علي أخطيت.
ذكره عبدالله الدويش في كتابه ”ديوان الزهيري“ ص 47.
10» ما لوم أنا الدهر لو جرّد سجاجينه.
ذكره عبدالله الدويش في كتابه ”ديوان الزهيري“ ص 282.
وغير ذلك مما ذكرنا.
ثانيًا: أكثر المواويل المنسوبة إليه لا تعتمد على الجناس.
وهذه نقطة مهمة؛ لكون الموّال «الزهيري» يعتمد في الأساس على هذه الركيزة، وهي الجناس، وبدونه لا يسمّى الموّال موّالًا، ويخرج عن هذا المسمّى.
ولو نظرنا نظرة سريعة إلى مواويل التاروتي المثبتة، لوجدناها تخلو من الجناس في أكثرها، فهو يستخدم الكلمة بالمعنى نفسه في الأشطر دون تغيير، وبهذا الصنيع يخرج الموّال عن مسمّاه.
وفي رأيي المتواضع، متى ما استخدم الشاعر كلمةً مكرّرة دون تغيير في معناها في قالب الموّال فإنّ هذا النوع نطلق عليه تجاوزًا «فنّ النايل»؛ لاعتماده على البحر البسيط، والقافية الخادعة، وسمّيتها بالخادعة؛ لأنّ شكلها في الأشطر كأنها جناس، وهي غير ذلك.
ولو مررنا على بعض مواويله، لرأينا ما ذكرناه ماثلًا، وسنأخذ أربعة أمثلة شاهدًا لما نقول:
1 الشاهد الأوّل ص 67 حيث يقول:
هشوم يا جبرتي ويش الجرى منك
اعظامي ذابت وجسمي ناحل منك
ما توعدني بليله وانفضي منك
نلاحظ أنّ الجناس «منك» لم يتغير معناه، فهو لفظة تكررت بنفس المعنى.
2 الشاهد الثاني ص 89 حيث يقول:
آه من الوقت وخلاني بلا إيا أخو
أخليت من الخل والخلان مالي أخو
وحيد مستوحد وحدي ولالي أخو
واضح أنّ كلمة «أخو» لم يتغيّر معناها كذلك في الأشطر الثلاثة
3 الشاهد الثالث ص 90 حيث يقول:
يا خوي أنا المبتلي والقلب شارب قهر
ضيم ومذلة وهضم والله معيشة قهر
ما تم بي يوم غير القلب شارب قهر
نلاحظ أن كلمة «قهر» التي استخدمها جناسًا في الأشطر الثلاثة جاءت بمعنى واحد كما لا يخفى.
4 الشاهد الرابع ص 128 حيث يقول:
يا زين هجرك نحل بمواصلك غيري
واحرم وصالك علي بمتابعك غيري
وايام عشر الصبا ما جاز لك غيري
نلاحظ أنّ «غيري» لم يتغيّر معناها في الأشطر الثلاثة.
ولو تتبعنا أكثر مواويله المدوّنة، لوجدناها بهذا الشكل.
ثالثًا: كثرة الأخطاء في الوزن «العروض الشعري»، وغير خفي بأنّ الموّال يكتب على البحر البسيط، أي موسيقاه ونغمته، ونجد عند شاعرنا التاروتي وما نُسِب إليه، الكثير من هذه المواويل جاءت مختلّة، وهذا الاختلال لعله وقع لأحد الأسباب التالية:
1 عدم معرفة الشاعر نفسه بالوزن؛ لكونه يعتمد على السليقة، التي قد تخونه، فيقع في الخطأ.
2 جهل الراوي الذي نسب الموّال للشاعر بالوزن؛ مما يجعله ينسب له موّالًا خاطئًا.
3 افتقار جامع الديوان للحسّ الشعري، والوزن العروضي.
ولعلّ هناك أمور أخرى.
ولكي يكون حديثنا موثّقا، وعلميًا، سنورد هنا نماذج لما أشرنا إليه من خلل في الوزن الشعري.
1 لولاك الشمس في جبينك ما أتت بالضحى. «ص 67».
والصواب: لولا.
2 شفت المدامع فيض يجري على الوجن زايد. «ص 68».
3 الموّال المشهور الذي يقول فيه:
أصحاب هاليوم لا بالخير تسعى لهم
يا مقسّم الحق واحد إلك وتسعى لهم
سايلك بالنبي إنّك لا تسعى لهم
نلاحظ أن الشطر الثالث مكسور في أوّله.
وهناك شواهد كثيرة، لو تتبعناها لسقط جلّ ما في الديوان المجموع.
رابعًا: بعض المنسوب له - إن صحّت نسبته - لا يدخل ضمن إطار الزهيري أبدًا، كقوله:
علي يا خاطب الزهرا أو نالها
يا صخرة العلم عن بير العلم زالها
هوه مدينه العلم رسول الله قالها
هذا المقطع الأوّل «العتبة» من الزهيري المزعوم، وردفته التي تليه كذلك. وواضح بأنّ الجناس مفقود، وإنّما الموجود القافية، ولذا خرج من إطار الزهيري، كما أنّ الشطر الأوّل والثالث فيهما خلل واضح في الوزن كما لا يخفى.
وهذا مقطع آخر نستشهد به أيضًا، فيقول:
بالك تبدّل أيام السعود بنحوس
أيام عشرك ضياها حندس وغلوس
لقسم برب السما يردك إلي منكوس
جاء هذا المقطع في الردفة، أي الأشطر الثلاثة التي تلي الثلاثة الأولى المسماة بالعتبة، ونلاحظ أنّ الكلمات «نحوس غلوس منكوس»، ليست جناسًا، لذا فهذه المقطوعة لا تمت إلى الزهيري بصلة، ناهيك عن الخلل العروضي في الشطر الأوّل.
عليه، فإنّ شعر الموّال المنسوب إلى التاروتي يحتاج إلى غربلة جديدة، وإعادة هيكلة لما يظن أنّه له، وما يُلمس أنّه ليس له، فالمواويل المنسوبة إليه أنْفَاسُها متعددة، والخبير يستطيع أن يميّز نَفَسَه عن أَنْفَاس غيره، فلكلّ شاعر أسلوبه الخاص به، ومن هنا لابدّ أن يُكتب التاروتي مرّة أخرى بإعمال التدقيق والبحث العلمي، ليظهر للأجيال في صورة مشرقة، مشرّفة، وصحيحة.
أمّا الذي قرأناه، وتلمسناه، يجعلنا نسلبه هذا اللقب «شاعر الخليج في فنّ الزهيري»، فلعمري لو صحّ هذا المنسوب إليه، فهو شاعر عادي، ولست أبالغ بأنّ الشاعرين «فرج بو متيوح، وحسين بو رقبة» أفضل منه.
نعم، يلزم إعادة غربلة ما نُسب إلى التاروتي، وإلى غيره، كحمد الحمود، ومحمد الرويعي، وراشد الفاضل، وغيرهم، فإنّ هذا المنسوب جدًا عادي، ولا يرتقي إلى الشهرة التي نالها.
والغريب أنّ الناس قد تناقلت نسبة بعض المواويل إلى التاروتي دونما تأكّد، كالموّال المشهور:
إجمال صبري على دار الحبيب أبراك
فهو أيضًا منسوب إلى الشاعر فرج بو متيوح، وديوانه مطبوع قبل ديوان التاروتي.
أمّا الأبوذيّات والعتابات المنسوبة إليه فهي قليلة، وهذا يؤكّد على أنّ الأبوذية والعتابة كانتا موجودتين جنبًا إلى جنب مع الموّال.
وبنظرة سريعة إلى أبوذيّاته وعتاباته المنسوبة إليه نجد أنّ حالهما كحال مواويله في عدم اعتماد الجناس، فلو أخذنا مثلاً هذه العتابة المشهورة له:
تنسم يا هوى الغربي بنعشي
غريب وشالت الأحباب نعشي
بوصيك يا شيّال نعشي
تمر بي على دار لحباب
فنلاحظ أنّ كلمة «نعشي» في الشطرين الثاني والثالث، هي نفسها، كما لا يفوتنا الخلل في الشطر الثالث، ويستقيم بإضافة «أنا» في أوّل الشطر، هكذا:
«أنا بوصيك يا شيّال نعشي»
وهذه أبوذية له مشهورة أيضًا، يقول فيها:
أريد أبجي على نفسي وانا حي
وعفت لذة الدنيا وانا حي
وصديق الما يواصلني وانا حي
بعد الموت ما بيه يبجي عليّه
نلاحظ أنّ كلمة «وانا حي» في الأشطر الثلاثة جميعها بمعنى واحد، ولا يفوتنا أن نشير إلى الخلل في الشطرين الثاني والرابع من الأبوذيّة.
بعد هذه القراءة الدقيقة لمواويل التاروتي، ومن عاصره، وأبوذياته، وعتاباته المثبتة، والمتداولة، نستطيع القول بأنّه لا يرقى بأن يحوز هذا اللقب «شاعر الخليج في الموّال»، ومن لديه أدلة تدحض رأينا، فليأتنا بها ونحن له من الشاكرين.
هو شاعر كغيره من الشعراء، كان ينشئ مواويله بفطرته البسيطة، وعفويته، وسجيته، وهو معذور إن أخطأ؛ إذ لا علم له بالجناس، ولا الوزن، وإنّما ينشد بأريحيته الصادقة، وإحساسه الحيّ النابض، قد يصيب أحيانًا، وقد تخونه الموسيقى في بعض الأحيان.
كلّ هذا نعرفه ونحسبه له، ولكننا أيضًا في الميزان العلمي يلزم أن نضعه في موضعه الصحيح، وألا تميل بنا العاطفة، فنطفف في الميزان، أو الوزن.
وفي ختام البحث نؤكّد بأنّنا حاكمنا الشاعر بما وَصَلَنا من شعر منسوب إليه، وأظنّ وهذا الأقرب أنّ له شعرًا سامقًا، ولكنّه لم يصلنا، ولو تهيأت الظروف لي، لأعدت كتابة التاروتي بما يستحقه، متى ما وجدت من يتكفل بأتعاب التحرير والطبع، وإن كان الذي وصلنا يعدّ جهدًا يشكر عليه من قام به؛ لكنه مهلهل ومشوش، ولم يعطه حقه.