الأسطورة والتحليل النفسي
في كل حضارة مرَّت على تاريخ الأمة البشرية كانت هناك أساطير مصاحبة لتلك الحضارات، ومنذ بدء الخليقة مثلت الأسطورة حالة من التكوين النفسي والحضاري للإنسان، واستطاعت الجدات وهن الراوي الأول لتلك الأساطير نقل تلك الحضارات عبر سردها وتحويرها بالطريقة التي تتناسب مع المجتمع الذي تعيشه، فكانت أساطير الخليج مرتبطة بحضارة بلاد الرافدين لقربها من المكان، ولكنها اليوم بفعل التقنيات الحديثة أصبحت مختفية، كما اختفت الأمومة الحقيقية، وتنصلت الجدات من دورهن الحقيقي في ممارسة الأمومة، ولعل موضوع التنصل هذا ليس محور حديثنا ويحتاج لقراءات أخرى في وقت لاحق.
وحول علاقة الأسطورة بالتكوين المعرفي يقول المؤرخ السوري فراس سواح «إن الأسطورة تنظر إلى التاريخ باعتباره تجلياً للمشيئة الإلهية. أما التاريخ فينظر إلى موضوعه باعتباره تجلياً للإرادة الإنسانية في جدليَّتها مع قوانين فاعلة في حياة الإنسان الاجتماعية. وهذا يعني أننا أمام نوعين من التاريخ: تاريخ مقدَّس وتاريخ دنيوي».
بمعني أن الأسطورة تعلَّقت في البحث عن الآلهة في غابر العصور والأزمان، فكان الإنسان في تلك الأزمنة يبحث عن خلاصه من خلال الأسطورة، فيذهب للعبادة من خلال تلك الأساطير التي وجدت على شكل مخطوطات حجرية في فترة من الفترات، لذا كانت بلاد الرافدين حبلى بتلك الأساطير المعرفية التي لها علاقة بالإنسان مثل «ملحمة جلجامش» التي تسرد تاريخاً معرفياً للإنسان واستطاعات أن تنقله بين العصور متحولة إلى كيفية تعامل الإنسان مع نفسه من خلال تلك الآلهة التي تكونت داخل «الأسطورة الملحمة»، لذا نجد في تلك الأسطورة حالة من التاريخ الإنساني الذي يعده سواح حالة من «التجلي الإنساني مع القوانين»، وتلك الذات التي كانت تبحث عن خباياها حينما هامت في الصحراء والبراري.
وكما يقول سواح أيضاً في دراسته حول الأساطير «إن كلاً من الأسطورة والتاريخ هما وسيلة يفهم الإنسان من خلالهما نفسه ويعي شرطه. وإن توقنا الآن لقراءة التاريخ وفهمه ينشأ عن الموقف القديم ذاته الذي كان يدفع أسلافنا لتلاوة الأساطير».
ومن خلال الوعي الإنتربولوجي لمعرفة الإنسان وارتباطه بسالف الأزمان تمكنت النهضة الأوروبية الحديثة في إرادة تحولها التطبيقي للعلوم المعرفية إلى نهضة مختلفة فنجدها قد استنفدت تلك الدراسات في العلوم الإنسانية محاولة تطبيقها على المكون المعرفي للإنسان وانتقلت به إلى نقاط أكثر حضارية عكس المكون في بعض الدول التي بنيت على أنقاض حضارات وكانت مجرد تجمعات سكانية مقبلة من عدة حضارات، وهذا ما نراه في المكون «الأمريكي» الذي نشأ على أساطير تلك الأرض التي استطونها وأصبح مواطنها الأصلي غريباً فيها «الهنود الحمر»، أصحاب الأرض والفكر والأساطير، واستحضروا علوماً أخرى جميعها حالة استهلاكية للإنسان لا تمت للمكون «المعرفي الإنتربولوجي» بصلة، بل علاقتها أصبحت مع مكونات استهلاكية، فأنتجت عصر السرعة والأطعمة السريعة المجمعة من قمامات الحضارة الإنسانية.
وقد قامت بعض الشعوب المنبهرة بتلك الحضارة «الورقية» بصناعة حضارتها الحديثة على ذلك الاستهلاك، ففقدت خطواتها الأصلية التي تنبع من الإنسان الساكن لتلك الصحاري والبحار وأخذت تستعير إنساناً آخر وأصبح مشوهاً لا يعبِّر عن ذاته ولا يعبِّر عن حضارته بل يعبِّر عن مكون استهلاكي حديث لا يستطيع صناعة مجتمع متين، بل سيكون مجرد حالة ورقية تتطاير مع أقرب ريح.