الغفلة في السياحة الدينية
مع اقتراب الصيف وسعي الناس لقضاء إجازاتهم خارج أوطانهم الحارة، تجاذبنا الحديث في إحدى الديوانيات عن وجهات السفر التي سيقصدها الحاضرون.
أشار أحدهم أنه سيتجه إلى إحدى الدول الأوروبية، بينما قال الآخر إنه سيذهب في رحلة دينية، تجمع بين السياحة والزيارة، ثم التفت إلى الأول وقال له: «كن معي فالمكان الذي سأذهب له يريحك من هم الأولاد والبنات، لأنك ستكون مطمئناً عليهم أينما ذهبوا».
الكثير منا يحاول أن يهرب من الواقع ويسرح في الخيال، والكثير منا يعتقد أن حالته الدينية المتقدمة خصوصاً مع تقدم عمره، هي بذات المقدار كمًّا وكيفًا، متوافرة لدى الشباب والشابات، وأحيانًا يتمنى بعضنا أن ينسى همَّ التربية ولو لبعض الوقت.
على كل حال، الأماكن الدينية كلها ليست بذلك الصفاء والنقاء الذي يتصوّره البعض، فهناك وفي الأماكن الروحية من يسوق للفساد ويدفع باتجاهه، نعم ربما يكون ظاهرها شرعيًّا، لكن حقيقتها في أغلب الأحيان ليست كذلك، بل هي بعيدة عن روح الشريعة وتعاليمها.
وهناك في تلك الأماكن من يحاول إفساد الأجواء الدينية والعبادية، فيحركه الشيطان للغواية والضلال وإفساد الأجواء الروحية، وقد تتحرك لهذا الغرض جهات مريبة تستهدف هؤلاء الشباب في أطهر الأماكن وأخص الأوقات التي يودّون التفرغ فيها لعبادتهم وتقربهم إلى الله.
هناك أيضًا طبيعة البشر الإنسانية بما تحمل من شهوات وغرائز وجهل، فالذين يقصدون تلك الأماكن ليسوا ملائكة ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾، الناس يذهبون إلى تلك البقاع بغية التطهر والنقاء، والتزود بالإيمان والتقوى، لكنهم يذهبون محملين بكل السلبيات الموجودة في مجتمعاتهم، وبكل السلوكيات التي اعتادوا عليها في بيئتهم، فمنهم من يوفق للعلو والرقي بنفسه وروحيته إلى درجات متقدمة، ومنهم من يغلبه هواه ويخدعه شيطانه، وتسوّل له نفسه فيندفع في اتجاهات ليست سوية، ولا تتلاءم والأمر الذي انبعث له.
بهذه العين الواقعية يجب أن ننظر إلى البشر الذين يذهبون للسياحة الدينية، وأن نحذر الوقوع في أمرين: الأول هو المزايدة والاعتداد، والثاني هو إسقاط مقدس المكان - بمن فيه - على البشر الذين يقصدونه.
في الأمر الأول هناك من يزايد على طبيعة البشر المحملة بالغرائز، وواقعهم المثقل بالأخطاء والزلات ولحظات الضعف، لمجرد أنهم ذهبوا للزيارة، وحلوا بتلك البقعة الطاهرة، ثم يوظف هذه المزايدة في عدم القبول بأي خبر مسيء يسمعه من عشرات المؤمنين القاصدين لتلك البقاع الطاهرة، مع أن الأمور ليست بذلك الخفاء، وأحيانًا يندفع هذا المزايد للقول بأن هذه الأخبار تثبّط الناس وتحبطهم عن معاودة الذهاب إلى تلك البقاع الدينية.
أما الأمر الآخر فهو إسقاط المقدس الذي حلّ بذلك المكان على البشر القاصدين لزيارته وهو أمر خطير جدًّا، ذلك أن صاحبه يربط - على سبيل المثال - بين الرسول ﷺ وبين ملايين الناس الذاهبين لزيارته، فيستحضر الرسول وينسى الناس، يستحضر ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ ويسقطه على من يتعثر بذنوبه وتقصيره في أغلب أوقاته.
إننا ننسى أحيانًا أن المجتمع الذي عاش رسول الله ﷺ حياته فيه، كما كان فيه الأتقياء والأصفياء والصحابة الأجلاء، فقد كان فيه عصاة وفسقة ومنافقون بشهادة القرآن، وكل هؤلاء لم يتأثروا ولم يتوقفوا عن المعاصي مع أن الرسول قائم فيهم ومتواجد بين ظهرانيهم، ويبشرهم ويحذرهم ليله ونهاره.
وقد سمعت من أحد الأحبة كلامًا مفاده، أن الاحترام لصاحب المكان يمنعنا عن الحديث بما لا يليق بالمكان، وبمن حلّ ضيفًا زائرًا لصاحب المكان.
هذا الكلام يدل على قلب طاهر وعامر بالدين، كما أنه ينطوي على قدر كبير من الاحترام والتقديس لصاحب المكان، لكن جميع من نقصدهم للزيارة تعترف لهم القلوب قبل الألسن بالقول «أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر»، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يفرحهم ويرضيهم كما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولعل التذكير والتنبيه ليس بعيدًا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وللحديث صلة إن شاء الله.