آخر تحديث: 1 / 4 / 2025م - 11:33 م

التوازن الأسري في عصر التكنولوجيا

سامي آل مرزوق *

تحديات الأمهات العاملات بين العمل الرقمي ومسؤوليات التربية

في عصر التطور التكنولوجي المتسارع، تواجه الأم العاملة تحديات كثيرة مضاعفة، بين التوفيق بين متطلبات العمل الرقمي ومسؤوليات التربية الأسرية، حيث أصبحت التكنولوجيا جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية، مما أرخى بظلاله على طرق التواصل داخل الأسرة وأساليب التنشئة الاجتماعية، من ناحية أتاحت التقنيات الحديثة للأم مرونة في إدارة وقتها، ومن ناحية أخرى فرضت عليها تحديات جديدة كالإلهاء الرقمي وانخفاض مستوى التفاعل المباشر مع الأبناء، فقد وجدت الأم العاملة نفسها أمام معادلة صعبة تجمع بين تحقيق النجاح المهني والقيام بدورها الأسري وتربية الأبناء على أكمل وجه، لذا أصبح من الضروري البحث عن أساليب تضمن تحقيق توازن بين متطلبات العمل ومسؤوليات التربية في ظل هذا العصر الرقمي، وبما لا يتعارض مع دورها الأساسي في تربية الأبناء تربية صالحة والاستفادة من التطور التكنولوجي والمفاهيم الجديدة التي استحدثت كالعمل عن بُعد والتعليم الإلكتروني وغيرها.

من منظور تربوي إسلامي قال جل وعلا ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: آية 33]، فمن القراءة البسيطة الأولية للآية الكريمة تؤكد على أهمية البيت كمركز لتربية الأبناء، مع المشاركة المجتمعية بأدب. وفي آية أخرى نجد قوله تعالى ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ [النساء: آية 11]، هي وصية الخالق جل وعلا بالاهتمام بالأطفال كأولوية.

وفي السنة النبوي روي عن الرسول محمد ﷺ أنه قال ”كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا“ رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 893، والكافي - للكليني ج 1 ص 407.

وعن الإمام علي في مستدرك الوسائل للميرزا النوري ج 14 صفحة 248 ”المرأة راعيةُ على بيت بعلها وولده، وهي مسؤولة عنهم“ وقوله ”المرأة الصالحةُ خير من ألف رجلٍ غير صالحٍ“ ميزان الحكمة، محمد الريشهري ج 4 ص 1846"، حيث يشير إلى أن دور المرأة أساسي في بناء المجتمع وأن صلاحها داخل البيت يوازي بل قد يفوق أدواراً أخرى خارجه فهي التي تربي الأجيال وتؤسس لمجتمع صالح، ودورها التربوي لا يقل عن أي دور آخر. وهو الدلالة على مسؤوليتها العظيمة في التربية.

شواهد من الأبحاث العلمية

أظهرت دراسة لمنظمة اليونيسف عام 2022 م أن 63% من الأمهات يعانين من صعوبات في إدارة الوقت بين العمل الرقمي ومراقبة أطفالهن، وفي بحث نشرته جامعة هارفارد عام 2021 م وجد أن الاستخدام المفرط لأجهزة الذكية يقلل التفاعل العاطفي بين الأم والطفل بنسبة 40%، وفي دراسة كذلك نشرتها مجلة العلوم التربوية والإنسانية التابعة لجامعة الملك سعود بالرياض للباحثتين أفنان الشافي وفاطمة العقلا، خلصت إلى تحديد أثر التكنولوجيا على علاقة الطفل بوالديه، وتوصلت إلى أن الاستخدام المفرط للتكنولوجيا قد يقلل من التفاهم بين الطفل ووالديه.

يتضح لديك عزيزي القارئ، إن التحدي الذي تواجهه الأم العاملة في عصر التكنولوجيا ليس مستحيلا لكنه يحتاج إلى وعي وإدارة ذكية للوقت والوسائل المتاحة، حيث نجد من خلال الآيات القرآنية والأحاديث أن الدين أعطى المرأة دوراً متوازناً بين البيت والعمل، مع التأكيد على التربية كونها مسؤولية مقدسة لا يجوز إهمالها.

أما الدراسات العلمية، فقد كشفت أن الإفراط في الاعتماد على التكنولوجيا دون ضوابط أسرية يؤثر على العلاقات، لكنها قدمت حلولاً عملية يمكن الاستفادة منها كتخصيص أوقات خالية من الأجهزة واستخدام التطبيقات التعليمية المفيدة، فالتكنولوجيا الحديثة سلاح ذو حدين كما يعلم الجميع.. يمكن أن تكون عونا للأسرة في تنظيم وقتها وتسهيل مهامها، ويمكن أن تصبح مصدر إلهاء وبذلك تضعف التواصل مع الأبناء.

إن الحل لا يكمن في رفض التكنولوجيا أو الانسحاب منها بل في تطوير ما نسميه مناعة رقمية تمكن الأسرة من الاستفادة من إيجابيات العصر الرقمي مع تحديد سلبياته وهذا يتطلب تجاوز النظرة التقليدية للأدوار الأسرية، وهو اختبار لقدرات المجتمع على التكيف مع متغيرات العصر دون التفريط في القيم الأساسية، فالنجاح في هذه المرحلة لن يقتصر فوائده على الأسرة بل سيمتد ليشكل ركيزة أساسية في بناء مجتمع قادر على مواكبة المستقبل دون أن يفقد جذوره، فدور الأم في ترسيخ القيم العائلية وغرس مفاهيم التوازن والاعتدال هو الركيزة الأساسية لضمان بيئة أسرية صحية ومستقرة.