آخر تحديث: 31 / 3 / 2025م - 1:39 م

حين لا يسمعون التصفيق… دعوة لتكريم المبدعين في حياتهم

عبد الله أحمد آل نوح *

‎في كل مرة يرحل فيها مبدع من هذه الحياة، تتسابق الكلمات لتأبينه، وتزدحم المنصات بعبارات التقدير والإشادة، وتُعاد أعماله إلى الواجهة في مشهد احتفائي متأخر. لكنها لحظة لا يسمع فيها صاحب الإنجاز شيئًا، ولا يرى ما جناه من حب الناس أو اعترافهم، لأنه ببساطة… قد غاب. هذا النمط المتكرر من ”تكريم ما بعد الرحيل“ يطرح تساؤلًا إنسانيًا وأخلاقيًا في آنٍ معًا: لماذا لا نُكرّم المبدعين وهم أحياء؟ لماذا ننتظر حتى يصمت صوتهم إلى الأبد كي نرفع صورهم وننشر كلماتهم ونتحدث عنهم بفخر؟

‎إن تقدير المبدع لا يُعد ترفًا، بل ضرورة تحيي المعنويات، وتبث الثقة، وتحفّز على الاستمرار في العطاء. فالمبدع - أديبًا كان أم عالمًا، فنانًا أم مفكرًا - لا يبحث عن التصفيق المؤقت، بل عن اعتراف صادق بأن ما يقدمه له أثر وقيمة. وهذا الاعتراف حين يُمنح في الوقت المناسب، يكون أبلغ من أي تكريم يأتي متأخرًا.

‎وقد دلّنا القرآن الكريم إلى هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: آية 60]، وهي آية بليغة تختصر فلسفة التقدير: أن من أحسن، يستحق الإحسان إليه، وأن رد الجميل هو جزء من أخلاق المجتمعات الراقية. فكيف نغفل عن تطبيق هذا المبدأ مع من قضوا أعمارهم في خدمة الفكر والإبداع، وأسهموا في تشكيل وجداننا الجمعي؟

‎في تاريخنا الثقافي والفني العربي، أمثلة كثيرة لأسماء لم يُنصفها زمانها، ولم تذق طعم الاحتفاء الحقيقي إلا بعد أن رحلت. بينما هناك قلة محظوظة، نالوا نصيبًا من التقدير في حياتهم، مثل نجيب محفوظ الذي احتفى به العالم وهو على قيد الحياة، فكان حضوره محليًا وعالميًا جزءًا من سيرته وليس مجرد ملحق لها.

‎المسؤولية اليوم لا تقع على جهة واحدة، بل هي مسؤولية مشتركة بين المؤسسات الثقافية، ووسائل الإعلام، والمجتمع بأسره. علينا أن نُطوّر من أدواتنا لتسليط الضوء على المبدعين وهم في أوج عطائهم، لا بعد أن تغيب أسماؤهم خلف تاريخ الوفاة. أن نُشعرهم بأن ما يفعلونه له صدى، وأن كلماتهم، لوحاتهم، أفكارهم، ليست مجرد أوراق في الرفوف بل حياة نابضة بالمعنى.

تكريم في النطاق القريب: الأم والزوجة أولى بالعرفان

‎حين نتحدث عن التكريم، فإن أقرب من يستحقه هنّ من كنّ عماد الحياة اليومية، ورفيقات الدرب: الأم والزوجة. فتكريم الأم ليس مناسبة عابرة في تقويم العام، بل هو اعتراف متجدد بعطائها الذي لا يُقاس، وتضحياتها التي صنعت أجيالًا. أما الزوجة، فهي السند الصامت، والمُحفزة الخفية التي تقف خلف النجاحات وتواجه الأعباء بصبرٍ لا يُروى.

‎إن أبسط لفتة تجاه الأم أو الزوجة - حتى في نطاق ضيق، بين أفراد الأسرة أو عبر كلمة محبة في مجلس صغير - هي بمثابة رسالة تقول للمكرَّمة: ”نراكِ، نقدّرك، ونفتخر بكِ.“ وهذه الرسالة في وقعها أبلغ من كل وسام أو شهادة. فليس كل تكريم بحاجة إلى منصة، بل إلى نية صادقة، ووعي بقيمة من نُكرّم.

‎تكريم الأم والزوجة هو تكريم للمعنى الحقيقي للحنان والوفاء. وهو أيضًا تربية للأبناء على ثقافة الامتنان، وتكريس لفكرة أن التقدير لا يُنتظر حتى يُفتقد، بل يُمنح ما دام المكرَّم حاضرًا بيننا.

‎إن التصفيق بعد الرحيل لا يسمعه أحد. أما الكلمة الطيبة، واللفتة الصادقة، والتكريم النزيه في وقته، فهي قادرة على أن تصنع الفارق، لا في حياة المبدع فحسب، بل في مستقبل الإبداع نفسه. فحين يرى الشباب أن الإبداع لا يُهمل، وأن صاحبه يُحتفى به، ستنمو فيهم روح المبادرة، وسيتسابقون إلى العطاء لا إلى الانسحاب.

‎فلنمنح مبدعينا حقهم في لحظة يسمعون فيها التصفيق، لا أن نغمرهم بالكلمات بعد فوات الأوان. فالتقدير الحقيقي هو الذي يُقال في الحياة، لا الذي يُقال على القبور.

عضو مجلس المنطقة الشرقية ورجل أعمال