وجه أمي قبلة وداع وضوء قمر
يا لها من فرحة كبرى، فرحة المسلمين بمقدم شهر الصيام، ومع تباشير رؤية هلال رمضان، رأينا وجه أمي هلالًا في البيت. عادت بعد غياب سبعين يومًا قضتها تحت سقف المستشفى، بين غرف التنويم وغرف العمليات. قلبتها أيدي الأطباء والممرضات بعلاجات مكثفة، وفحوصات مستمرة، ومراقبة طوال الوقت. عادت إلينا إطلالة من نور، محياها شعاع تلألأ على وجوهنا والأحفاد. حناجرنا تهتف بنغمة حلوة على الشفاه: ”يا حي الله هالقبال.. نورتِ البيت يا يماه“. سعادة غامرة ملأت قلوبنا، والألسن تلهج حمدًا وشكرًا.
بركات الشهر الفضيل، طمأنينة نفس، وأصوات المقرئين تتداخل في فضاء الليل. كبر الفرح، وكبر الأمل، واتسعت خطة العلاج حسب توصيات فريق الطب المنزلي، من أجل استرداد عافيتها شيئًا فشيئًا. طموح ملأ نفوسنا بهجة وتفاؤلًا، ممزوجًا بعزم وصبر، ومزيد من الأدعية من لدن المؤمنين والمؤمنات. زيارات خاصة من قبل الخال والخالات، قبضات الأكف في حضرة أمي وشائج حنين وحب لا متناه: ”ما عليك شر، بتقومي بالسلامة يا خيوه“.
بعد أن يطيب لهن الجلوس مقامًا، يسردن غناوي الشوق تسلية لخاطرها الحزين. تسمعهن، وتحرك رأسها باستئناس، يأخذها الحماس، فتطلق بضعة كلمات نصفها غير مفهوم. تود أن تقول شيئًا، لكن يغالبها الصمت، فاللسان شبه معقود. بدوري، استدرجت خالاتي عن أيامهن الحلوة، فنثرن ذكريات طفولتهن العامرة بالضحكات، وعن سباقهن ردحًا تحت فيافي النخيل في فضاء فريق الأطرش، حيث الخضرة مروج ربيع، وغلات الحصاد رزق وفير. تنهدات ملتاعة عن براءة الأمس، يوم كانت أفئدتهن تترنم نبضًا مع تغريدات البلابل، ينشدن الأهازيج رقصًا وحجلًا، وهن يرفلن بالبخانق من صنع أمهن، دلالة على رؤوسهن. أخذني التمني بحثًا عن قصص ”خراريف لول“، إن كن يحفظن شيئًا مما تحفظه أمي، لأني موعود معها لتوثيق قرابة «35 خرافة» مليئة بالفنتازيا، ولكني أجلت التسجيل لحين استكمال رصد حياة الأجداد الماضية، التي تتلوها على مسمعي بين حين وآخر عبر ذاكرتها وذاكرتهن والآخرين غيرها من جيلها وأصغر قليلًا. لكن لم يسعفني الوقت لتسجيل ما كنت أصبو إليه بسبب المشاغل والتسويف، وفي نفس الوقت لا أريد في كل مرة أن أثقل كاهلها بفتح صفحات حياة الأولين، برغم ذلك كانت ترحب بكل سرور.
بين اليقظة والنوم، مر طيف جدتي بلهفة تجاه ابنتها مريم بسؤال: ”اشحالك يا بنيتي يا مريم؟!“. يا جدتي، حال أمي «يا فرحة ما تمت». ما أن انتصف الشهر الفضيل، بدأ حراكها في التراجع، عازفة عن الأكل، ووجهها يميل للشحوب، شبه غائبة عن الوعي. ساورنا الضجر والحيرة، حملت على عجل في سيارة الإسعاف، ومددت على السرير الأبيض في مستشفى القطيف المركزي قسم الطوارئ، واكتشف بعد الفحص بأنها مصابة ببكتريا في البول والدم. بدأ العلاج بشكل مدروس حتى استعادة عافيتها إلى حد ما يشبه وضعها يوم كانت في البيت قبل أن تنقل للمستشفى ثانية. أخذت تأكل وتتحرك وتلتفت والحواس حاضرة إلا من ثقل اللسان. رتب الأمر من قبل الدكتور المختص بالمسالك البولية لتغيير دعامات الكلى اليمنى خلال اليومين القادمين، لكن فجأة بعد ثلاثة أيام من الوضع شبه المستقر انقلب كل شيء على عقب. جاءنا الخبر عبر مكالمة من أختي فاطمة التي كانت ترافقها طوال الوقت تقول لنا: ”تعالوا بسرعة الوالدة أرسلوها لقسم العناية المركزة“. هرعنا مذعورين ظهرًا، حين رأيناها مغمضة العين بهتنا، وتساءلنا كيف وصلت لهذا الحال؟ دهشة بفغر فاه وبتقطيب جبين، وثمة علامات استفهام عن سبب ذلك! لماذا وكيف؟ كانت في الصبح تتناول الفطور كالمعتاد، وتمسك بيدها اليسرى أكواب الماء لتشرب على راحتها، وتتمتم ببضعة كلمات، ثم استسلمت للنوم، وعند منتصف النهار انقلب حالها إلى أسوأ حال. تقاطر الأطباء واحدًا تلو الآخر، وقرروا حالًا نقلها للعناية على وجه السرعة. يا إلهي، ما هو الشيء الذي حولها لهذا المنقلب الصحي الخطير؟ نسأل ونتساءل، ونكثر من السؤال تلو السؤال، ربما الإجابة افتراضية تساور أنفسنا المكلومة! يحيط بنا الأسى غمامة تحجب الرؤية، ولا اتهام! كنا متشبثين بالأمل والرجاء من الله أن يمن عليها بالصحة عاجلًا غير آجل. أصبحت الزيارات محددة لنا وقتًا، والدخول إليها اثنين اثنين بكرت رقمه 4. نراقبها تائهين الفكر، صدرها يرتفع ويهبط، إذا القلب العليل لا زال ينبض. تتنفس عبر جهاز الأكسجين الصناعي. نتأمل وجهها الغارق في النوم، في التيه، في اللاوعي، غياب تام والجسد ممدد لا حول له ولا قوة. نراها أشبه بجثة هامدة، ننظر ودموع العين تبرق في المحاجر، حيارى يعتصرنا الألم كلما ذهبنا وحضرنا بمعية الإخوان والأخوات.
أجهزة موزعة ذات اليمين وذات الشمال، وأهواز مغروسة في الأنف والفم، والشاشات تصدر أصواتًا وأرقامًا. ما عهدنا أمنا أن تصير بهكذا حال. ننتظر بفارغ الصبر كلام الأطباء، لعل أحدهم يحتوينا ببارقة أمل، ولكن يأتينا الجواب الموجع بتقبل أسوأ الاحتمالات. اجتمعنا مع الفريق الطبي، وأخبرونا بكلام علمي وعملي، وشرح على جهاز الكمبيوتر بأن الجسم في الأساس منهك ويقاوم العلل من كل جانب. وضعونا أمام الأمر الواقع حتى نتهيأ نفسيًا بأن وضعها حرج جدًا، وهي الآن تحت رحمة الله. غادرت مع أخي عبد الحي بعد أن ساد الغرفة حالة من الصمت الرهيب، حتى تبعتنا الأخصائية الاجتماعية عند الممر لتهون علينا الخطب، همست لنا بكلام كله رقة وعطف، وبالتسليم بالقضاء والقدر. شكرناها ونحن وجلين، تركتنا ورجعت ثانية، وأعطتنا ورقة خاصة موقعة من قبل الاستشارية لنحضر في أي وقت نشاء بوقت ممتد من الساعة الواحدة ظهرًا حتى الواحدة ليلًا دون انتظار أوقات الزيارة! نسحب خطوات بتثاقل، وكل شيء في نظرنا تغير، وأصبح التفاؤل في نظرنا مثل فص ملح ذاب. ماذا عسانا نفعل لنأتي إليها، لنسليها، لنعالجها، أو لكي نتعذب نفسيًا؟ أتينا إليها لنتجلد صبرًا، ونتلو أدعية مرسلة لرب السماء، فنحن لا نملك إلا الدعاء، وخاطبنا المؤمنين والمؤمنات بأن لا ينسوها في ليلة القدر، ونعم الإخوة والأخوات الكرام فقد شملوها بأدعيتهم الخفية والجهرية، وبعضهم أقام ختمة قرآن، وزوجتي وابنتي عند ضريحي الإمام الحسين وأخيه أبو الفضل العباس عليهما السلام تتلوان بأدعية عند كل زيارة بقلوب ملهوفة للشفاء، فيض عطف وشمائل رحمة عند الأسحار مرسلة لرب رؤوف رحيم.
يمر الوقت ثقيلًا، والنوم مضطربًا، والقلق أرق مهيمن على الحواس. انتصف نهار الثلاثاء وحان وقت الزيارة، توجهت برفقة أخي عبد الحي، وسبقونا بقية الإخوة والأخوات. حين وصلنا ألفيناهم وقوفًا وجلوسًا، قال أخي عبد الإله: ”«بينتهي وقت الزيارة وإحنا ما دخلنا، كل شوي يقولوا لينا انتظروا انتظروا“. جاوبته: ”لا تهتم، نحن لدينا وقت مفتوح“. خاطبت ”سكرتي“ الأمن بأن يعطيني رقم الكرت 4، قال: ”«انتظر شوي بيبدلوا إليها الحين، وبيجي إليكم الدكتور»“. أرمق النظر من الباب الزجاجي وحراك من بعد غير عادي. خرج الزوار والممر خاويًا، بدأ القلق والخوف والوجل والترقب يتوزع علينا بين نظرات حائرة.
حاولت جاهدًا أن أقنع ”السكرتي“ أن يفتح لي بابًا آخر يفضي إلى غرفة الطبيب المناوب، استجاب وتوجهت إليه: ”يا حضرة الدكتور، خبرنا عن الوالدة، لماذا منعتمونا من الزيارة، طمنونا عليها؟“. أجابني ببرودة أعصاب وهو مشغول بالأوراق: ”دي والدتك آه، توفيت من قبل ساعة“. قلت له: ”متأكد ولا أنت غلطان؟“. أكد الخبر طبيب سمح المحيا: ”عظم الله أجوركم، الحاجة مريم هبوب انتقلت إلى رحمة الله، الله يرحمها ويغفر ليها، الله يعظم أجركم!“. يا إلهي.. يا ربي، تاه البصر وحار الفكر، وكل شيء في عيني غمام، أرى الوجوه ضباب. هرعت لإخوتي وأخواتي أتخبط في الممر، لأخبرهم بالنبأ الصادم، خلاص يا أحبابي كل شيء انتهى، أمنا ماتت، وفدت على رب كريم، انفجرنا بكاءًا، والأحضان لمة وداع، والدموع بللت الأكتاف، أصداء النحيب تهز المكان.
حين حان وقت الإفطار، سحبنا جثمان الوالدة من ثلاجة الموتى، ونقلتها سيارة الإسعاف دون المرور على بيتها رأسًا للمقر الأخير. تقاطر الجمع من الأهل والأحبة والمعارف والجيران والأصدقاء لحضور مراسم التشييع. قبلات مواساة مترعة بوقفة إجلال عظيمة عند المصاب. وعند المغتسل ألقينا نظرة الوداع الأخيرة، والعيون مصوبة نحو وجه أمي المتلألئ نورًا، الناضح سدرًا وكافورًا، بينما النحيب مأتم عزاء. صلاة الميت أمنا فيها سماحة الشيخ عبد الكريم الحبيل، ثم قراءة حسينية من لدن الحاج ملا حميد القطري الذي أبكى الجموع. رفع النعش على أكتاف المؤمنين بتهليل وتكبير، عويل يشيعها لمنازل الراحلين، وكم اعتصر قلبي حين سمعت أصوات النسوة يترددن عند قبر أمي وهن يسكبن الماء ترحمًا وأنينًا بإيقاع بكاء يقطع نياط القلب: ”أم عبد العظيم استوى بيتك الجديد!“. يارب بحق شهر رمضان ابني منزلًا لأمي في الجنة.
إيه.. بأي الكلمات أرثيك يا يماه، وأي الحروف أنعيك يا يماه، يضيع مني الكلام وأتوه في الفراغ، مكبل بالصمت، ماذا عساي أن أقول بعد الغياب؟ أمي رحلت عنا للأبد، غير مصدق وغير مستوعب. يا يماه أصحيح لا لقاء معك بعد اليوم، لا صوت لا ضحكة لا اتصال لا جلسة في حضرتك، لا ترنم إعجابًا لحكاياتك الحلوة؟ متى آخر تسجيل وثقته بصوتك الواضح الفصيح؟ كان ذلك صباح يوم الجمعة 20 ديسمبر 2024 م، وعند فجرية السبت أصبح حالك لا حول لك ولا قوة. تسعين يومًا عانيت ما عانيت، وتحملت ما تحملت من مستشفى ثم للبيت، وثانية للمستشفى، ظننا أنك سوف تعودين، وآه من وخزات القلب تشيعين للنزل الأخير.
يا يماه، قبل أن تدخلي في الغيبوبة، زرناك ليلًا، وقبل أن نغادر الغرفة وأنت في كامل وعيك مستلقية على السرير، ونور المحبة يشع من نور وجهك، داعبك أخي عبد الحي كثيرًا، فأرخى رأسه بجوار شفتيك وقال لك: ”حبيني في الخد، يالله بعد هذا الخد“، وقمت لا إراديًا بذات فعل أخي. خرجنا مسرورين بطبع أربع قبلات دافئة على خدودنا، امتنانًا طلبناه منك بشكل عفوي، لنقول لك كم قبلتينا ونحن في المهد وقبل الفطام وبعده. هذا تذكار لنعود بك شابة فتية فرحة بنا أيما فرح. فعلنا ذلك امتنانًا لك على حسن تربيتك لنا، وعلى أمل أن نكرر القبلات في القادم من الأيام لحين تماثلك للشفاء يومًا بعد يوم، لكن حمل لنا الغد ما لا يسرنا، غاب وعيك تمامًا عنا، فعل فعلناه ونحن لا ندري تلك كانت قبلات الوداع الأخيرة!
كنت يا يماه تقولين لنا ونحن صغار: ”إن شاء الله تشيلوا قايمة نعشي“. هي أمنيتك المتكررة بأن لا تفقدي أحدًا منا طالما أنت على قيد الحياة، ها وقد تحققت أمنيتك، لكن أمانينا معك لم تنفذ، وأقربها الشوق لزيارة الأئمة الأطهار في العراق معًا، وذلك في شهر شوال هي الخطة المرسومة سلفًا، حبك لزيارتهم والمتكررة يفوق الوصف، حتى تمنيت أن يدفن جسدك بجوارهم وخصوصًا في الغري، رحمك الله يا أمي رحمة واسعة وحشرك مع من تحبين.
كلما سجلت لك حكاية عن حياة الأولين عبر جوالي تقولين لي في نهاية الجلسة: ”يا ولدي الدنيا حجاوي وسوالف وأصحابها راحوا وبنروح وراهم“. أدرك يا يماه ذلك، تلك حتمية الرحيل لا بد منها في نهاية المطاف، نهاية كل مخلوق وكل الكائنات الحية إلى زوال.
لكني يا أمي كنت مفعمًا بالأمل معك، وأمني النفس ليكون عمرك أطول، وكم دعوت الله كثيرًا ليصل عمرك مقاربًا لعمر أبي 100 عام، هكذا تمنيت وتخيلت أن يبقيك الله معنا، لأن وجودك بركة علينا ورحمة وراحة بال وجمال حياة. كم خذلنا هادم اللذات وفرقنا عنك، أرخى الرحيل سدوله المطبق على وجوهنا وفقدنا إطلالة وجهك الكريم ”«ظلمة الدنيا علينا»“، من دونك دنيانا موحشة، التنهدات أشواك ووخزات في الصدر.
رحيلك عنا يا أماه خسارة لا تعوض بكل كنوز الدنيا، كما أنا مذهول لفقدك، غير مستوعب حجم الخسارة، أنت بالنسبة لي كائنًا روحانيًا لأن روحك متعلقة بالتقوى والإحسان، تبادرين إذا أتيحت لك الفرصة بالمشاركة بتغسيل المؤمنات اللاتي قضين نحبهن، وترسلين حمدًا لله الذي أكرمك لتفويض الماء على الأجساد المسافرة أرواحها للملكوت الأعلى، كنت لا تهابين من الموت، ولا يخامرك جزع منه لإيمانك الشديد بحقيقة الوجود، قلبك نابض بذكر الله، وقد حفظت سورًا من القرآن وأنت لم تتعلمي أبجديات القراءة، لديك قابلية للحفظ عجيبة، تحفظين الأدعية والأهازيج والحكايات من أول أو ثاني مرة يتلى عليك من قول أو أثر، ويظل محفورًا في ذاكرتك مهما تعاقبت السنين، قليلة النسيان وتعرفين تواريخ المواليد والأموات، وعن تعلقك بآل البيت حب لا متناه، ترجمت هذا العشق لهم بوضع مجلس عزاء أسبوعي في بيتك المحدود مساحة، وأما عن أحلامك فهي ليست أضغاث أحلام بل رؤية صادقة، تحدث واقعًا بحسب وصفك ”«حلمي يصير سطر المسطرة»“، والصدقة لديك عنوان دائم، والفقير عندك لا يرد مهما كانت يدك خاوية، أنت إنسانة تفيض إنسانية.
يا يماه خسرتك حبًا، خسرتك حنانًا، خسرتك أمانًا، خسرتك ملجأً، خسرتك تاريخًا، خسرتك قيمة، خسرتك ذاكرة، خسرت قلبك العطوف الذي كان يدعو لنا آناء الليل والنهار.
أنا الآن من دونك أصبحت يتيمًا، وأدرك وحدة من حوليك ونحيب بنتك فاطمة الغالية، التي قالت لخالها من داخل المغتسل وسط الصراخ والنحيب: ”«يا خالي كل عيد تجي إلينا السنة بتجي لمن»“! خالي حسين قوي البأس أوجعته الكلمات فانهمر باكيًا، وأخذ طرف غترته يمسح الدمع، وصار الموقف غصة في الحلق.
أغمضت عيني وطافت بي الذكرى شمعة صبا على سطح بيتنا من عام 1977، صاعدًا بأدواتي الفنية أرسم منازل الديرة، وإذا بوالدتي أقبلت حاملة طشت الثياب تعصر وتنشر على حبل الغسيل، وهي ترى ما أرسم وتقول لي: ”«يا ولدي رسمتك للبيوت حليوة واجد»“. بجانبي مسجل يرسل شجنًا عراقيًا يمد حزنًا في الآفاق: ”«چنت آنا أشوفك گمر وهلال من ابعيد، ولمن وصلتك شفت حزنك بيوم العيد»“. تمتمت والدتي: ”«الحزن بيوم العيد»“!
تلك اللحظة من عمر الزمن ترسل صورتها ترجمة حية موعود بها بعد انتهاء أيام مجالس الفاتحة. سيهل هلال العيد ومن دونك يا يماه لا معنى للعيد، بعد أن غاب هلال وجهك يا قمر البيت الضاوي علينا طوال الأعياد. هو حزننا يوم العيد، ذلك النغم البعيد يرسل أشجانه حاضرًا على أوتار القلب ليعزف شجننا الدفين.
صوتك يناديني يا يماه، وأنا أتخطى معك طفلًا لعين العودة: ”«بأسبحك يا ولدي وبفرك شعرك بطين اخويلدي وبالبسك ثوب العيد»“! آه من الأيام آه، عود بنا يا زمن للوراء، اتركنا للحنين، اتبع ظل أمي في الطرقات والفيافي، وبين المكوث في العيون لأرى وجه أمي منعكسًا على سطح الماء.
أي ذكريات أقلبها على مدى 65 عامًا، وهي سنين عمري، وأنا أقول وأردد أماه أماه، منادات فرح وبهجة ترنم بها قلبي، ولحنها لساني. الآن أصبحت دارك خالية، أنادي من، وأنتظر من، وأقول أين أمي راحت ”«آه العمر شمعة انطفت»“، أنفاسي وجع، فقدت طعم الأشياء، كم من الوقت أحتاج لأتعافى من حزني، لأشفى من حالة فقدك؟ الفراق صعب صعب على قلوب أولادك وبناتك وأخواتك وجميع الأهل والأعزاء والأقارب والأحباب والجيران والمعارف. إنا على فراقك يا أماه لمحزونون، اللهم امسح على قلوبنا بالصبر وداونا بالسلوان.
تحايا من القلب لكل من واسانا في مصابنا، وقدم التعزيات، أحسنتم وبارك الله فيكم وجزيتم خير الجزاء.
يا يماه سيبقى طيفك وضاءً كنور قمر عند نداء الله أكبر، فحين يرفع الأذان عند كل صلاة كنت تتوجهين نحو القبلة، ويداك مرفوعتان للأعلى، وتقولين بتبتل وخشوع بطلب من الرب الكريم: ”«يا دفاع النوائب يا كشاف الشدائد، يا هي تدفع البلاء والنوائب عنا وعن جميع المؤمنين والمؤمنات من مشارق الأرض إلى مغاربها»“. يا يماه سلام على روحك الخيرة الودودة الطاهرة المحبة للناس."