آخر تحديث: 31 / 3 / 2025م - 1:39 م

خُذِ القَلَمَ بِقوّة

عقيل المسكين *

لم يكنِ القلم الذي رأيته مرميًّا على التّراب في لمحة سريعة من عَينَيَّ مصنوعًا من الذهب أو الفضة أو البلاتين أو أي معدنٍ ثمين آخر، إلا أنه كان يلمع من انعكاس أشعة الشمس عليه، وحسب الظاهر إنه كان قلمًا جديدًا، وكان من نوع أقلام الحبر التي تُباع وقتئذٍ في أيّ قرطاسية من القرطاسيات، وعادة ما كانت تستخدم تلك الأقلام - بالنسبة للطلاّب - للامتحانات النهائية آخر السنة الدراسيّة، وإلا فإن بقية أيام الدراسة في الفصلين الأول والثاني فقد كان الطلاب يستخدمون أقلام الحبر الناشفة كما تُسمّى، وكنت أمشي مع زميلي في الصف الدراسي بمدرسة الأندلس الابتدائية؛ وكان ذلك بالتقريب عام 1397 هـ - وأثناء الخروج بعد انتهاء الحصة الأخيرة في تلك الظهيرة كانت الشمس الملتهبة ترسل أشعتها كالسّهام تصيب كل من تسقط عليه، ولم أعبأ بكلّ تلك السّهام الحارقة حتى لو كانت ذهبية فقد كنت أمشي برفقةِ زميلي وكلانا فَرِحٌ بالخروج؛ وبمجرد أن رأيت القلم رآه زميلي أيضاً في نفس اللحظة وجَرَينا معًّا نستبق للفوز بالقلم كأنّنا رَأينا كنزًا وكلٌّ مِنّا أراد امتلاكه، إلا أن زميلي كان المنتصر بعد أنِ انقضَّ عليه كانقِضاض الأسد على فريسته، فما كان مِنّا إلا أن اشتبكنا في نزاع على القلم وأسقطتُ زميلي أرضًا وجلستُ على صدره ويداي تحاولان فكّ أصابع زميلي الضاغطة بكلّ قوتها على القلم حتّى استطعتُ أن أفكّ تلك الأصابع وأخذت القلم بسرعة خاطفة، ولأن زميلي بدأ يضرب بكلتي يديه أخذتُ حجرًا قريبًا مني وضربت به جبهة زميلي المطروح أرضًا وأنا أجلس على صدره حتى أدمَيته، وبدأ زميلِي بالصّراخ من شدّة الألم، ثم ولّيتُ منتصرًا وهاربًا بالغنيمةِ وقد خبّأت القلم في جيبي الأيمن؛ وأنا مسرور به أيّما سرور؛ وكأن شيئاً لم يكن.

في منزلنا الكائن بالديرة اختبأت بحقيبتي وقد وضعت غنيمتي الثمينة فيها وأنا في نشوة الانتصار حتى تعجّبت أمّه من تصرفي هذا؛ وأظنها كانت تسأل نفسها:

- ماذا وراءك لا بد أنك قد ارتكبت مصيبة من مصائبك التي عوّدتنا عليها.

وأنا مختبئ في مخبأي كان صوت الشجار بين والدتي وأمّ زميلي جارتنا قد ارتفع إلى عنان السماء، والتمَّت الجيران من نساء وأطفال بين البيتين في ذلك الزقاق وجاءت إليَّ أمي في مخبئي المعهود وأخرجتني وهي تمسك بإذني اليُمنى وأنا أصيح:

- أَيْ أَيْ.

وسلّمتني لِوالِدِي الذي أشبعني ضربًا وتعنيفًا حتى عُلا صُراخي وتوجّعت من شدّة الألم، وكاد الجيران أن يوصلوا المشكلة إلى الشرطة لولا قيام بعض من سمع بالمشكلة من الجيران حيث قاموا بتهدئة الوضع والاقتناع بالصلح وإعادة القلم إلى صاحبه الذي وجده أولاً، وكان هذا الحكم الارتِجالي من الجيران مُؤلمًا جدًّا بالنسبة إليه.

والمفاجئة التي يتحدث عنها من يعرف هذه الواقعة التاريخية والمعركة الوجودية بينني وبين زميلي وجاري أن الذي حصل علَى القلم بعد سبعة وأربعين عامًا - من هذه الذّكرى - لم يصبح كاتبًا، وإنما أصبح موظفًا إداريًّا في إحدى الشركات الكبرى، والذي أصبح «كاتباً» هو الذي أخذ ”علقةً“ كبيرة من والدهِ ولا زالت ذِكرى ذلك الضرب المبرّح الذي حصل عليه مُدوّيًا في ذاكرته ولم ينسها حتى تاريخ كتابته لهذه السطور، وإن كنتُ لوالدي في بعض الأوقات من عمر طفولتي الأولى والثانية أتحلّى بأشياء صغيرة من الشقاوة، إلا أن «قلمي المطيع» لم يكن شقيّاً معي على الإطلاق فقد كان يطيعني بمحض إرادته حتى آخر كلمة كتبتها في هذه التوهجات المبعثرة.