آخر تحديث: 1 / 4 / 2025م - 4:04 م

الإرث: قراءة فلسفية واجتماعية ونفسية في ضوء الفكر الإسلامي

عماد آل عبيدان

الإرث ليس مجرد أموال تُقسَّم، بل هو انعكاس عميق لنظام العدالة الاجتماعية في الإسلام، يحمل بين طياته بُعدًا فلسفيًا يعكس مفهوم الأمانة والحقوق. ومع أن النصوص الشرعية واضحة في بيان أحكام الإرث، إلا أن الواقع يُظهر تعقيدات متزايدة نتيجة تأجيل تقسيم التركة، أو تعطيله عمدًا تحت ذرائع واهية، مما يؤدي إلى مشكلات نفسية واجتماعية واقتصادية خطيرة، تتفاقم عبر الأجيال.

تعطيل الإرث: ظاهرة اجتماعية تحت غطاء العاطفة والذرائع الواهية

من أبرز المشاكل التي تواجه مسألة الإرث في الواقع المعاصر هي تعطيل تقسيمه بحجج ظاهرها الرحمة والاعتبار العاطفي، وباطنها التهاون والتسويف الذي يُفضي إلى تعقيدات لا تُحمد عقباها.

1. حجة البعد العاطفي

يُبرر بعض الورثة تأجيل تقسيم التركة بحجة أن تقسيمها سيؤدي إلى تفكيك الأسرة أو سيُسبب ألمًا نفسيًا للورثة، خصوصًا إذا كانت التركة تتعلق بممتلكات عزيزة على العائلة.

مثل تأجيل تقسيم منزل العائلة لأن بعض الأبناء يرون أن بيعه أو تقسيمه سيُمزّق الرابط العاطفي بينهم.

لكن في الحقيقة، هذا التسويف غالبًا ما يُفضي إلى نزاعات أعمق عندما يتزوج الأبناء وتتشابك مصالحهم، فيتحول الإرث من رابطة عاطفية إلى نزاع مرير يُفقد الأسرة تماسكها.

2. حجة استغناء بعض الورثة عن حقهم

يدّعي بعض الأغنياء من الورثة أنهم ليسوا بحاجة إلى حصتهم من الإرث، ما يدفعهم إلى التساهل في تقسيمه، دون اعتبار لاحتياجات الورثة الآخرين ممن هم في أمسّ الحاجة لهذا المال.

فكم من عائلة تعطّل تقسيم ميراثها لأن أحد الورثة الميسورين لا يرى أهمية للمطالبة بحقوقه، بينما هناك أرملة أو أيتام ينتظرون بفارغ الصبر هذا المال لتغطية حاجاتهم المعيشية.

3. التسويف والتأجيل غير المبرر

كثيرون يماطلون في تقسيم التركة بحجة انتظار توافق الجميع أو تحسن الظروف، ما يؤدي إلى تراكم المشكلات، خصوصًا إذا توفي أحد الورثة قبل أن يُحسم الأمر، فتصبح التركة أكثر تعقيدًا بانتقالها للجيل الثاني ثم الثالث، حتى يضيع الإرث بين الخلافات والتعقيدات القانونية.

تفاقم المشكلة مع انتقال التركة بين الأجيال

التسويف في تقسيم الإرث يُؤدي إلى نتائج كارثية عندما تنتقل التركة إلى الجيل الثاني ثم الثالث:

• تتضاعف أعداد الورثة، وتزداد تعقيدات القسمة.

• كثيرًا ما تضيع معالم التركة، وتُصبح بعض الممتلكات بلا وثائق تثبت ملكيتها، ما يُسهل اغتصابها أو الاستيلاء عليها بطرق غير مشروعة.

• تُولد مشاعر الحقد والقطيعة بين الأقارب بسبب النزاع على حصص كانت لتُحسم لو تم الالتزام بأحكام الشريعة منذ البداية.

على سبيل المثال، ورث أحد الأبناء منزلًا عن أبيه دون توثيق ملكيته، وعندما تُوفي هذا الابن، أصبح المنزل مُطالبًا به من قبل أكثر من عشرة ورثة من الجيلين الثاني والثالث، فتحول الأمر إلى معركة قانونية استمرت سنوات طويلة، وضاعت التركة بين أروقة المحاكم.

روايات أهل البيت وتحذيرهم من تعطيل الإرث

روايات أهل البيت جاءت لتحذّر من هذه الظاهرة، حيث عالجت المسألة من جذورها النفسية والاجتماعية:

• قال الإمام علي :“من منَعَ وارِثًا حقَّه، منعه اللهُ حقَّه في الجنَّة”— إشارة إلى خطورة التسويف في تقسيم التركة، لما فيه من أكلٍ لحقوق الآخرين.

• عن الإمام الصادق :“اتقوا الله في الأيتام وفي مواريث النساء، فإنّ الله سيُحاسبكم على ذلك حسابًا شديدًا”— وهو تحذير واضح من الاستهانة بحقوق الفئات المستضعفة في الإرث.

أمثلة من ورثة الأنبياء وتجاربهم مع الإرث

حتى في تاريخ الأنبياء وأوصيائهم نجد نماذج واضحة تُظهر كيف استُهدف الإرث وسُلب بطرق ظالمة:

• سُلب فدك من السيدة فاطمة الزهراء بعد وفاة النبي ﷺ، تحت ذريعة واهية، رغم أن الله تعالى جعل لها نصيبًا واضحًا فيها. وقد طالبت السيدة فاطمة بحقها بحكمة وبلاغة، مؤكدة أن تعطيل الإرث ليس مجرد حرمان مادي، بل هو اغتصاب لحقوق شرعية تؤدي إلى فساد المجتمع.

• الإمام الحسن والإمام الحسين ورثا من رسول الله ﷺ العلم والحكمة إلى جانب الحقوق المادية، لكن التاريخ شهد كيف سعى الطغاة إلى محاربة أهل البيت وحرمانهم من هذه الحقوق، ما أدى إلى تفكك المجتمع الإسلامي في بعض مراحله.

الإرث في الفكر الإسلامي: ضمان التوازن بين الحق والواجب

الفكر الإسلامي يُقدّم رؤية فريدة تجعل من الإرث نظامًا متوازنًا بين الحقوق الفردية والمصلحة الاجتماعية:

• يُفرض تقسيم محدد يضمن حصول كل فرد على نصيبه دون أن يُترك الأمر للأهواء الشخصية.

• يُحرّم التسويف والتعطيل لما فيه من ظلم واضح وتأخير لحقوق المحتاجين.

• يشدد الإسلام على حفظ حقوق الأضعف من أفراد الأسرة، مثل الأيتام والنساء، مع التأكيد على دور الورثة في حماية هذه الحقوق.

حلول عملية لمعالجة مشكلة تعطيل الإرث

للتصدي لهذه الظاهرة الخطيرة، يمكن اعتماد عدد من الخطوات العملية:

1. نشر الوعي الشرعي بين الناس بأهمية الإسراع في تقسيم التركة وفق الأحكام الإسلامية.

2. تشريع قوانين صارمة تُلزم الورثة بتقسيم التركة في مدة زمنية محددة، مع فرض عقوبات على المماطلين.

3. إدخال الوساطة الأسرية كخطوة أولى لحل النزاعات ودّيًا قبل اللجوء إلى القضاء.

4. تشجيع التوثيق أثناء حياة المورّث، بحيث يُسجّل توزيع ممتلكاته بما يُغلق أبواب النزاع لاحقًا.

نبض أخير

الإرث ليس مجرد حق مالي، بل هو مسؤولية اجتماعية وفلسفية تتعلق بحفظ الروابط الأسرية وتحقيق العدالة. تعطيله أو التسويف فيه بحجج واهية يؤدي إلى مشكلات نفسية واجتماعية عميقة تُهدد استقرار العائلات والمجتمعات. إن الالتزام بأحكام الشريعة في تقسيم الإرث هو السبيل الأضمن لصون الحقوق وحفظ العلاقات الإنسانية من التمزق والضياع.