آخر تحديث: 1 / 4 / 2025م - 5:37 م

الجبر الاجتماعي

محمد العلي * مجلة اليمامة

مسألة «الجبر والاختيار» أول مسألة هزّت الفكر العربي، وفتحت أمامه أبواب التساؤل الفلسفي. كان ذلك في عالم اللاهوت. وبعيدا عن ذلك المفهوم أطرح هنا مفهوما آخر، وهو مفهوم «الجبر الاجتماعي» الذي يؤثر في الفرد تأثيرا تلقائيا، في أحيان كثيرة، ولكن هناك من يستسلم لهذا التأثير، وهناك من يقاومه، مهما استطاع.

يعلّل العلامة عبد الرحمان بدوي خلو الثقافة العربية من النشاط الفلسفي؛ بأن الفرد العربي لا دور له في الحياة إلا ما تحدده الجماعة، وإلا اعتبر منبوذا، وهذا إرث قبلي قديم امتد إلى فضاء الفكر، بخلاف الفرد اليوناني الذي لا يعرف هذا القيد. ويتضح صواب رأي بدوي حين نعرف أن تقدم أي مجتمع ينهض به أفراد من ذلك المجتمع، لا المجتمع كله. فإذا حُدّد دور الفرد، من أي جهة كانت، فمعنى ذلك أن حريته في التفتح والتوق إلى الأكمل قد سلبت منه فأصبحت إرادته مكبّلة.

المجتمع هو الأسرة، والمدرسة، والتفاعل الاجتماعي، والمستوى الحضاري، والإرث التاريخي. وكل هذه المنابع المؤثرة في تكوين شخصية الفرد كانت موجودة قبل وجود الفرد، بكل ما تحتويه من صواب ومن خطأ، وهو يتلقى هذا السيل دون اختيار. ومن هنا يبدأ التمايز بين الأفراد، فهناك الأكثرية الأفقية التي تضع إرادتها المعرفية بيد غيرها، وهناك أقلية عمودية تكافح للتخلص مما يتركه المجتمع من أخطاء. ومن المفارقة أن هؤلاء الذين يجدون في أنفسهم الطاقة على معرفة الخطأ ومحاولة تصحيحه، يختلف تلقي المجتمع لآرائهم اختلافا وجوديا، فبعض المجتمعات تحاربهم حتى الإبادة لآرائهم، وبعض المجتمعات تلهب لهم الأكف بالتصفيق.

التأثير، في أيامنا هذه، لم يعد تأثير مجتمع واحد، فبدلا من تعرض الفرد لسيل واحد، هو سيل مجتمعه التراثي، أصبح هدفا لسيول عاتية تنصب عليه من جهات لا يستطيع تجنب تأثيرها فيه. وهذا التداخل بين الثقافات لم يقف تأثيره على الفرد، بل شمل المجتمع كله، وغرس، في كل ثقافة، عدم اليقين، وفتح أمام كل مجتمع وكل فرد «مفازة جرداء حتى من خفوق سراب» كما يقول الجواهري. إن ما يسمونه «القلق الوجودي» أعتقد أن أحد أسبابه هو هذا التضارب بين الثقافات الذي سلب الهدوء النفسي من كل مهتم بالمعرفة.

كاتب وأديب