هل التغيير مستحيل أم أنك تخشى التحدي
يُعدّ التغيير ظاهرة طبيعية وحتمية تفرض نفسها على حياة الأفراد والمجتمعات، إذ يمثل ركيزة أساسية للتطور والتكيف مع المتغيرات المستمرة في البيئات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، ولكنه غالبا ما يكون مصحوبًا بمشاعر الرفض والتوجس؛ نظرًا لما يولّده من شعور بعدم اليقين، حيث يميل الإنسان بطبيعته إلى الاستقرار والتشبث بالمألوف باعتباره مصدرًا للأمان النفسي والمعيشي، غير أن مقاومة التغيير لا تنبع فقط من الرغبة في الاستقرار والخوف من المجهول، بل تتأثر أيضًا بعوامل ثقافية واجتماعية مترسخة تدفع الأفراد والمؤسسات إلى تبني مواقف حذرة تجاه التحولات، فالتشبث بالروتين والأعراف السائدة عادة ما يعزز نزعة التردد، بينما يغذي الخوف من الفشل والهواجس المرتبطة بتبعاته مقاومة أي خطوة نحو الإقدام على التغيير.
ولهذا نجد أن استجابة الناس للتغيير ليست واحدة، فهناك من يرحب به، ويتعامل معه بوعي وشجاعة، فيسعى إليه بإرادته، ويعتبره فرصة للنمو والتطور، وهم المبادرون، وهناك من يرى فيه تهديدًا لاستقراره ومصالحه، فيتردد في قبوله، ويشعر بالخوف من نتائجه، وهم المحايدون وهناك من يقاومه بشدة رافضًا أي تحول قد يغير وضعه الحالي فلا يُبدي أي اهتمام به، ويعيش حياته دون محاولة التأقلم مع المستجدات أو البحث عن فرص جديدة وهم الرافضون، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو:
ما هو التغيير، وهل التغير الذاتي مستحيل، أم أنك تخشى مواجهة التحديات التي ترافقه؟ ولماذا يفضل الكثيرون البقاء في دائرة الراحة بدلا من السعي نحو التطور؟ وكيف يمكنك إحداث تغيير إيجابي في طريقة تفكيرك وحياتك الشخصية والمهنية؟
هو مفهوم مشتق من الفعل الثلاثي «غير» بمعنى بدل الشيء، أو انتقل من حال إلى آخر.
وقيل بأنه عملية تعديل أو تحويل تحدث نتيجة عوامل خارجية أو داخلية تؤثر على الواقع مثل تغيير القوانين أو السياسات أو الظروف الاجتماعية أو الضغوط الاقتصادية.
هو تحول أو تطور يحدث بإرادة الفرد أو المؤسسة بناءً على قناعة داخلية بضرورة التحسن والتطور، ويكون غالبا نتيجة وعي ورغبة في التقدم، وليس استجابة لضغط خارجي كما هو الحال في التغيير، كأن يقرر الفرد العادي أو الموظف من تلقاء نفسه تطوير مهاراته أو تحسين إنتاجيته الشخصية أو تغيير أسلوب تفكيره لمواكبة المستجدات والتطورات في بيئة العمل، أو في الفضاء الاجتماعي. وكما ورد في قول الإمام علي ”ميدانكم الأول أنفسكم، فإن قدرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإن عجزتم عنها كنتم عن غيرها أعجز“ أو بحسب ما قال أفلاطون ”أن أعظم انتصار هو أن تنتصر على نفسك“ أو كما قال ستيفن كوفي ”التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، فلا يمكنك التحكم في الظروف الخارجية، ولكن يمكنك التحكم في استجابتك لها“.
إنني أعتقدُ جازمًا أنه لا شيء مستحيل ولا شيء يتحقق بسهولة أو دون جهد، فكلُ هدف يتطلب عزيمة وإرادة، وكل تغيير يحتاج إلى صبر وإصرار، وبالإصرار والتحدي والتخطيط نجعل المستحيل ممكنًا والعوائق دروسًا نتعلم منها.
وكما أن هناك من يعتقد أن التخلي عن العادات المتجذرة التي اعتاد عليها أمرُ صعب أو مستحيل؛ لأنه يشعر بالأمان والاستقرار معها، ويرى أنها جزء لا يتجزأ من هويته، حتى وإن كانت تعيقه عن التقدم، إلا أن الواقع الفعلي يؤكد أن التغيير لا يمكن أن يتحقق ما لم يتم التخلي عمّا اعتدت عليه. فكما يقولون ”لا يمكنك عبور نهر جديد إن كنت لا تزال متمسكًا بضفة الأمان، أو“ لا يمكنك التحليق نحو القمم إذا كنت لا تزال متمسكًا بأرض الأمان، فالتغيير عادة يبدأ عندما تجرؤ على التخلي عن القديم، وتمنح نفسك الفرصة لاستكشاف الجديد، فالمخاطرة المحسوبة هي أول خطوة نحو التغيير العظيم.
لكن المشكلة أن البعض من الناس لا يحبون النهايات والتغيير، لأن كل انتقال يبدأ بنهاية. والنهايات غالبا ما تحمل معها شعورًا بعدم اليقين والخوف من المجهول، غير أن الحقيقة هي أن كل نهاية تحمل في طياتها بدية جديدة، وفرصة للنمو والتطور، وإليك بعض الأمثلة من الواقع المعاش.
كثير من الأشخاص يشعرون بعدم الرضا عن وظائفهم الحالية، ولكنهم يترددون في التغيير خوفا من فقدان الاستقرار أو مواجهة المجهول. ومع ذلك نجد أن الذين يقررون مغادرة وظائفهم الروتينية والانخراط في مجالات جديدة أو إطلاق مشاريعهم الخاصة غالبًا ما يحققون نجاحًا ونموًا شخصيًا ومهنيًا لم يكن ممكنًا لو ظلوا في أماكنهم دون تغيير. مثل ”جاك ما“ مؤسس شركة علي بابا الذي كان يعمل مدرسًا للغة الإنجليزية قبل أن يغامر في عالم التجارة الإلكترونية، ليصبح أحد أنجح رجال الأعمال في العالم.
لا يمكن لشخص يسعى إلى تحسين صحته أن يحقق نتائج إيجابية ما لم ينهِ أولا عاداته السيئة مثل التدخين أو قلة النشاط البدني بمجرد أن يقرر تغيير أسلوب حياته والتخلي عن تلك العادات المتجذرة في حياته.
في كثير من الأحيان يظل البعض متمسكين بعلاقات غير صحية أو مؤذية خوفًا من التغيير أو الوحدة، ولكن بمجرد أن يقرروا إنهاء تلك العلاقات أو الصداقات السامة يفتحون لأنفسهم أبوابا جديدة لحياة أكثر سعادة واتزانًا.
من يرغب في تحقيق النجاح والتطور في حياته عليه أن يتخلى عن الأفكار المعيقة مثل الاعتقاد بأن التعلم والتطوير يتوقفان بعد التخرج، أو الحصول على الشهادة الجامعية أو حتى الدرجة العلمية، أوانهما ينتهيان بالتقاعد، فالتعلم عملية مستمرة والنمو الشخصي لا يرتبط بمرحلة عمرية، بل هو نهج يمتد طوال الحياة، ومثال على ذلك ”راي كروك“ مؤسس سلسلة مطاعم ماكدونالدز الذي بدأ نجاحه الحقيقي في سن الخمسين بعد سنوات من التعلم المستمر وتطوير مهاراته في إدارة الأعمال. وكذلك هارلاند ساندرز مؤسس كنتاكي «KFC» الذي لم يبدأ في تحقيق نجاحه الكبير إلا بعد سن 65 عندما طور وصفته الخاصة، وبدأ مشروعه الخاص بعد التقاعد.
لقد قلنا إن الكثيرين يعتقدون أن البقاء في وضعهم الحالي يضمن لهم نوعًا من الأمان والاستقرار؛ ولذلك نراهم ُيقاومون أي تغيير أو أي محاولة للخروج من المألوف متذرعين بحجج مثل أن ”الوضع مستقر كما هو لا أريد المخاطرة“ أو ”أن التغيير قد يكون صعبًا وغير مضمون“ وما إلى هنالك، متغافلين أن الحياة لا تتوقف عند الظروف الحالية، وأن الركود لا يعني الأمان، وإنما قد يكون بداية للتراجع التدريجي وفقدان الفرص التي كان يمكن استغلالها دون أن يشعروا.
وبالعودة إلى سبب تفضيل الكثيرين للبقاء في دائرة الراحة بدلا من السعي نحو التطور، فإن الإجابة من وجهة نظري بشكل أكثر تفصيلًا مما ذكرته أعلاه تكمن في عدة عوامل نفسية واجتماعية مع التنويه إلى أن البقاء في دائرة الراحة ليس أمرًا سلبيًا بالضرورة، بل يعكس حاجة إنسانية فطرية للأمان والاستقرار. ولعل من أبرز هذه العوامل.
في أعماق كل إنسان يقبع صراع خفي بين الرغبة في الاستقرار والخوف من التغيير، وبين الحاجة إلى الشعور بالأمان والطموح نحو تحقيق الذات، لكن المفارقة تكمن في أن معظم الناس، رغم أحلامهم الكبيرة يختارون البقاء في دوامة الرتابة حيث لا مفاجآت ولا مخاطر ليس لأنهم لا يريدون التقدم، ولكن لأنهم يخشون المجهول، ويفضلون اليقين الممل على المغامرة غير المضمونة.
كم من شخص يمتلك مهارات استثنائية، لكنه يرفض التقدم على سبيل المثال على وظيفة أفضل خوفًا من الفشل، وكم من شخص يطمح لبدء مشروعه الخاص، لكنه يتردد مفضلًا راتبًا ثابتًا على مستقبل مجهول، وكم من كاتب أو مبتكر يملك أفكارًا عظيمة، لكنه يخشى طرحها خوفًا من النقد أو الرفض، وهذه ليست حالات فردية، بل قد تصل إلى ظاهرة عالمية تجعل الإنسان يسجن نفسه داخل ”دائرة الراحة“ حيث يبرر لنفسه البقاء بعبارات مثل ”لست جاهزًا بعد“ سأنتظر الفرصة المناسبة " وما إلى هنالك، وعلى الجانب الآخر هناك أشخاص يفهمون أن الراحة الدائمة وهمُ قاتل، وأن التغيير والفاعلية والتحدي هما السبيل الوحيد للتطور والتقدم.
بدون وجود أهداف محددة أو حلم ملهم يصبح من الصعب على الفرد أو الموظف أن يجد سببا مقنعًا لمغادرة منطقة الراحة والاستقرار، ولذا فالتطور غالبا ما يتطلب رؤية واضحة لما يمكن تحقيقه، ومقاومة نشطة للعادات اليومية والروتين المعتاد الذي يعزز من بقاء الأشخاص في دائرة الراحة، فضلا عن جود قدوة ملهمة أو أشخاص يدعمونه في رحلته نحو التطور.
يُطلق بعض علماء النفس على الميل للبقاء في منطقة الأمان دون سعي وراء التطور اسم ”مرض الراحة“ Comfort disease حيث يصبح الإنسان أسيرًا لبيئة مألوفة، حتى لو كانت غير مُرضية بحجة أنه لا يريد إجهاد نفسه أو تعريضها للإحباط وهي ظاهرة تتجلى في الخوف المبالغ فيه من الفشل كأن يقول إن ”الحياة ليست سباقًا“ أو ”المهم أنني بخير“ والإفراط في التعاطف مع الذات أو إعطاء النفس أعذارا دائمة مثل ”أنا متعب“، ”لستُ في أفضل حالتي الآن“ وما شابه وتأجيل القرارات المهمة بحجة عدم الجاهزية أو الحاجة إلى وقت أطول للتفكير، لكن الحقيقة هي الخوف من المواجهة، والاعتماد على الاستقرار الوهمي كالبقاء في وظيفة غير مرضية لمجرد أن الراتب ثابت أو تجنب تعلم مهارات جديدة خوفا من عدم الإتقان السريع وما إلى هنالك.
لقد أثبتت العديد من الدراسات في علم النفس والتنمية البشرية أن التفكير الإيجابي يلعب دورا حاسمًا في تحقيق النجاح على المستويين الشخصي والمهني، ومن أبرزها دراسة أجراها كارول دويك حول ”عقلية النمو“ إلى أن الأفراد الذين يؤمنون بأن قدراتهم يمكن تطويرها من خلال الجهد والتعلم المستمر يحققون نجاحًا أكبر مقارنة بمن يتبنون عقلية ثابتة ترى القدرات على أنها غير قابلة للتغيير.
وهذا ما يؤكد كلام المدرب المعتمد في التنمية البشرية الأستاذ عبد الله القاسم على أن أقوى معلومة اكتشفها البشر في العقود الأخيرة ”إنك عندما تتحكم في تفكيرك، فإنك تتحكم في مزاجك ونفسيتك وتحفيزك؛ وبالتالي تتحكم في حياتك“.
يمكنني أن أقول إن التغيير ليس مستحيلًا بقدر ما هو انعكاس لمدى استعدادنا لمواجهة التحديات وكسر قيود الخوف. وأن الفرق بين من يبقى عالقًا في واقعه، ومن يصنع مستقبله يكمن في العقلية التي يتبناها ”عقلية الراحة“ التي تبحث عن الأمان في المألوف مقابل عقلية النمو التي ترى في التحديات فرصًا للتطور.