الإحسان بين الفضيلة والخطأ
أن تحسن إلى الآخرين في غير موضع الإحسان! أو تحسن إلى الشخص الخاطئ الذي لا يستحق الإحسانّ فهل يترتب على إثر ذلك شيء ما في نفسك؟
إن كنت ممن يقرأون في مثل هذه المواضيع وتهمهم فأكمل القراءة، وإن كنت غير مهتم فتابع من باب الفضول لعلك تكتشف سبب كتابتي في هذا الموضوع.
يُروى أن الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام مرضا، فنذر أبوهما الإمام علي بن أبي طالب وأمهما السيدة الجليلة فاطمة الزهراء سلام الله عليهما أن يصوما ثلاثة أيام إن شفاهما الله. وعندما تعافا، شرع أهل البيت في صيام النذر، وكان معهم خادمتهم فضة.
وفي اليوم الأول عند الإفطار، طرق مسكين الباب يطلب الطعام، فما كان من الإمام على والسيدة فاطمة والحسن والحسين وفضة إلا أن أعطوه كل ما لديهم من طعام، وظلوا على الماء فقط.
وفي اليوم الثاني عند الغروب، جاء يتيم يسألهم الطعام، فأعطوه ما لديهم مرة أخرى، وبقوا جائعين.
وكذلك حصل الأمر ذاته في اليوم الثالث طرق الباب أسير يطلب طعامًا، فتكرر المشهد، وأعطوه طعامهم رغم جوعهم الشديد.
وحينها نزلت فيهم الآيات الكريمة من سورة الإنسان: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: آية 8 - 9]
وما أعظم شأن من أن ينزل الله تعالى في شخص ما آية في القرآن الكريم تخصه، إنه لشرف عظيم، وكل ذلك بفضل الإحسان، ومن هنا يقودنا هذا المثال وغيره من الأمثلة الكثيرة في تاريخنا الحافل بذلك لكثير من الواقف، إلى التفكر قليلا في هذه الفضيلة ”الإحسان“.
الكثير منا قد تأخذه المبادئ التي تربى عليها والتدين الذي تدينه إلى أن يجعل من الإحسان ديدنه إلى الكثيرين ممن حوله، وهنا وقفة أخرى وإشارة صفراء تنذر وتنبه!!
هل كل الناس تستحق الإحسان؟ ومن يستحق ذلك فعلا؟
من الصعب اليوم أن تفرز الناس والمجتمعات بعين حكيمة، لتعرف من يستحق الإحسان ممن لا يستحقه.
يحكى أن ابن العلقمي كان وزيرًا للخليفة العباسي المستعصم بالله، لكنه كان ناقمًا على الدولة العباسية، وسعى إلى التحالف مع المغول بقيادة هولاكو لتدميرها. في الوقت الذي كان فيه المغول يزحفون نحو بغداد، كان الوزير يراسلهم سرًا، ويقلل من شأن قوة جيش الخلافة، بل وأقنع الخليفة بتخفيض عدد الجنود بحجة الاقتصاد، مما جعل بغداد ضعيفة عسكريًا.
وعلى الرغم من أن بعض المقربين للخليفة شككوا في نوايا ابن العلقمي، إلا أن الخليفة لم يُقدّر خطورة الأمر ولم يتخذ أي إجراءات صارمة ضده، بل واصل ثقته به ومنحه صلاحيات كبيرة!
وعندما دخل المغول بغداد، كان ابن العلقمي من أوائل المرحّبين بهم، وسهّل لهم الطريق لارتكاب واحدة من أعظم المجازر في التاريخ، حيث قُتل مئات الآلاف من سكان المدينة، ودُمّرت الحضارة العباسية، وأحرقت مكتبة بغداد العظيمة، وانتهت الخلافة العباسية رسميًا.
هنا نرى أن الإحسان والثقة في غير محلها قد تؤدي إلى نتائج كارثية، إذ أن ”المستعصم“ أحسن الظن بوزيره ولم يحاسبه رغم الشكوك، وكانت النتيجة سقوط واحدة من أعظم المدن في التاريخ.
وما بين القصتين، قصة أهل بيت النبي والإحسان إلى مستحقيه، وقصة المعتصم بالله والإحسان في غير موضعه، كانت هناك نتائج وآثار جبارة وذات شأن عظيم، غير من مسار الكثير من الأمور مستقبلا.
ولذا نحن كذلك علينا أن نحسن في موضع الإحسان الحقيقي، لمستحقيه فقط، والمسألة فقط تحتاج إلى حكمة وتشخيص قبل أن تدخل نفسك في دائرة الندم.
ويقودنا المقال هنا إلى السؤال الأخير، وهو لمن يكون الإحسان؟
ولكي نعرف مستحقيه فعلا، علينا أن نعرف أن الإحسان هو إتقان العمل وبذل الخير للآخرين دون انتظار مقابل، وهو مرتبة عالية من الإيمان، كما ورد في حديث النبي ﷺ:“الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.”
وعليه بعد أن يفهم معنى الإحسان جيدا، يأتي دور التشخيص الجيد، فليس الإحسان هو مجرد العطاء فقط للآخرين، بقدر ما هو عطاء للنفس كذلك، فأنت أولى الأشخاص المشخصين بمستحقي الإحسان وفق ما ورد في الحديث النبوي إذ يقول " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.”أي أنه يجب عليك أن تراقب الله تعالى في نفسك، وحينها سيكون كل عملك متقنا جيدا مستحسنا ذو فائدة وهدف فأنت أتقنته من باب الحرص على أن من يراقبك هو الله فيجب أن يكون العمل متقنا كما يجب، ومتى أحسنت إلى نفسك واعتدت الإحسان إليها، فحينها ستعتاد الإحسان إلى الآخرين. والذين يمكن حصرهم على سبيل المثال لا الإطلاق وهم:
1- لله تعالى: بالإخلاص في العبادة وإتقان الطاعات.
2- للناس: بالأخلاق الحسنة، والبر بالوالدين، والإحسان إلى الجار، والعفو عند المقدرة.
3- للحيوان: بالرأفة به، كما قال النبي ﷺ:“في كل كبدٍ رطبةٍ أجر.”
4- للطبيعة والبيئة: بالحفاظ عليها وعدم الإضرار بها.
ومن هنا عد بالوراء قليلا في ذاكرتك واكتب في ورقة خارجية، كم عدد من هذه القائمة أحسنت إليها في يوم من الأيام؟
ولا تنسى أن تفرز نوع الإحسان الذي قدمته إليهم، فإما أن يكون ذو معنى وفي مكانه الصحيح أو أن يكون في غير موضعه. فإن كانت قائمتك إيجابية فأنت عرفت معنى الإحسان جيدا، وإن كانت سلبية، فأنت محتاج إلى أن تفهم معنى الإحسان من جديد وتربي نفسك عليه بطريقة صحيحة.
الإحسان خُلق عظيم، لكنه يصبح سذاجة أو استغلالًا عندما يُوضع في غير موضعه. فالإحسان الحقيقي يجب أن يكون مع مستحقيه، لكن في زمننا هذا، نجد أحيانًا أن البعض يستغل طيبة الآخرين لتحقيق مصالح شخصية دون وجه حق، وإليك بعض الأمثلة:
1- مساعدة من لا يستحق: كإعطاء المال لشخص يتظاهر بالحاجة بينما هو قادر على العمل، مما يشجع على الكسل والاحتيال.
2- التسامح المفرط مع الظالم: كالإحسان إلى شخص يستمر في الأذى، فيأخذ اللين ضعفًا ويتمادى في ظلمه.
3- الكرم المبالغ فيه على حساب الأسرة: كإعطاء المال للأصدقاء أو الغرباء بينما الأهل في حاجة ماسّة.
وأنت أيها القارئ محور حديثي هنا عن الإحسان، وهدفي من الكتابة في هذا الموضوع بالذات فلقد أصبحنا في زمن يجب علينا أن نقف مع أنفسنا ونسأل هذا السؤال، هل نحن حقا محسنون؟ فكر بينك وبين نفسك وأجب عليها.