التقينا بالملا عبد المحسن النصر في المدينة
في المرحلة الابتدائية، بإحدى السنوات، كنا قد ذهبنا إلى المدينة المنورة مع الوالد وأمي وإخوتي وأخواتي لزيارة الرسول الأعظم ﷺ، وآل بيته الكِرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في بقيع الغرقد، وزيارة شهداء أحد، وبقية آثار آل محمد في المدينة المنورة، ولقضاء بضعة أيام أثناء الإجازة المدرسية بنصف السنة، وفي تلك السنوات لم تكن الفنادق كثيرة جداً كما هي عليه اليوم، ونحن في عام 1446 هـ، بل سكنَّا في أحد البيوت التي يتم تأجيرها على الحجاج والمعتمرين ممن يجمعون في حجهم وعمرتهم زيارة المدينة المنورة، وكان من عادة والدي أن يأخذني معه أثناء زيارته للحَمَلات الأخرى للالتقاء بأصحابها وبمن معه من رجالات سيهات والشخصيات التي يعرفها للسلام عليكم والسؤال عن أحوالهم، ومن ضمن الحملات التي زرناها في مقر سكنهم حملة من مدينة سيهات يرافقهم الملا عبد المحسن النصر، حيث جلسنا معه في غرفته، وكان جالساً على مرقده المفروش على أرضية الغرفة وبجانبه بعض حاجياته وحقيبته، وكان يلبس لباس العلماء وعليه قلنسوة كالتي يلبسها كبار السن وقتئذٍ، وكان لونها يميل إلى اللون الأسود قليلاً ويضع في أحد جيوبها تلك الساعة التي لها سلسلة مُثبتة في بالجيب نفسه، وكان يلبس غترته أما البشت فكان معلقاً على إحدى العلاقات المثبتة في الجدار بجانب باب الغرفة من الداخل، وقد تناولنا معه استكانات الشاي، وفناجين القهوة، إضافة إلى بعض الرطب من نخيل المدينة، وكان بالغرفة ثلاثة أو أربعة من الرجال المرافقين معه في تلك الرحلة، وأتذكر أن الملا عبد المحسن النصر كان يتحدث عن معاناته في الحجّ وتعبه من جرّاء ضعفه البدني الذي يشكو منه بسبب الكِبر، حتى قرأ علينا قصيدة شعبية جميلة هي عبارة عن وصف كامل لخط سير الرحلة وما وجده من مشقّة وجُهد، فتعجبت من هذا الأسلوب الشعري الوصفي، وقد عرفت فيما بعد أن أمثال هذه القصائد هي من قبيل ”شعر الرّحلات“ الذي يمتلئ عادة بوصف الرحلة وتغيُّر الأحوال حسب التنقلات من مكان إلى مكان أو من موضع إلى موضع آخر، وكذلك وصف ما يجري من مواقف يشترك فيها الأفراد والجموع، ووصف الحالة الزمنية من حرٍّ أو برد أو رطوبة أو مطر أو عواصف أو رياح وما إلى ذلك، وكذلك الاهتمام بالحالة النفسية لواصف الرحلة، والحالة النفسية لبعض الأفراد أو الجموع الذين معه في هذه الرحلة وهكذا، والملا عبد المحسن النصر وصف رحلة الحجّ من الانطلاق مع الرحلة من مدينة سيهات حتى الوصول إلى مكة المكرمة وأداء مناسك الحج كاملة من موقع الإحرام حتى حَلّ الإحرام وإلى عزمهم للخروج من مكة الكرمة قاصدين زيارة الرسول الأعظم ﷺ وأهل بيته الكرام في المدينة المنورة، وقد تميزت قصيدته بالجِدّ في موضوعها لأنها تتحدث عن رحلة الحج وهي رحلة إيمانية من حيث الوجوب لمن يحج لأول مرة والاستحباب لمن يحج للمرات التالية، كما تميزت بالفكاهة المباحة لأن شخصية الشاعر كانت مرحة، حيث يتميز الملا النصر بروح الدعابة والطرافة في تعامله مع مَن حوله وفي مُجمل شعره المنشور العديد من الشواهد على حسّه الفَكِه وطرافته، وقد أعجبني أسلوبه في هذا الدمج العجيب بين الروح الجادَّة والنفسُ الفَكِهة في تعاملها مع الآخرين وفي عملية التوصيف لا سيما إذا جاء في وصف نفسه والمشقة التي سببت له التعب والإرهاق.
وكان الجلوس في ذلك المجلس يستمعون إلى الملا النصر وكأنّ على رؤوسهم الطير من شدة التركيز والاندهاش من طريقة الوصف الشعري والتنقل من مشهد إلى مشهد آخر في رحلة الحجّ، إلا أن بعضهم كان يصدر بعض كلمات التعجّب والتفاعل مع الأبيات، كيف لا والملا النصر أحد الخطباء الحسينيين المشهورين ليس في سيهات، بل في المنطقة كلها من القطيف حتى الأحساء، كما إنه مارس الخطابة خارج المنطقة أيضاً كالبحرين والعراق وبعض مدن الأهواز، كما ورد في سيرته الذاتية التي قرأت فيها قبل سنوات من خلال اطّلاعي على بعض المصادر والمراجع التي تطرقت إليه كما تطرقت إلى بعض الخطباء الحسينيين.
بعد الانتهاء من تلك الزيارة خرجت مع والدي متوجهين لمقر السكن، حيث أكملنا برامج زيارتنا في الأيام التالية حتى عودتنا بسيارة والدي ال ”سوبربان“ بعد شد الحقائب واللوازم كلها على «العرشة» التي ثبتها على سقف السيارة، وكانت رحلة إيمانية جميلة، وأبرز ما أتذكره منها هي هذه الزيارة الجميلة للملا عبد المحسن النصر، وكأنني أنظر إليها كمقطع من فيلم سينمائي في ذاكرتي التي تخونني كثيراً إلا مثل هذه اللقطات الجميلة، فرحم الله الملا عبد المحسن النصر وأسكنه الفسيح من جنانه فقد ترك في شخصيتي انطباعاً جميلاً لا زال محفوراً في جدران ذهني منذ سنوات الطفولة تلك، وهو أحد الذين رغّبوني في الشعر استماعاً وقراءة وقرظاً.