آخر تحديث: 2 / 4 / 2025م - 9:59 م

الراحل أبو عبد المعطي التركي في نظر العارفين

عبد العظيم شلي

تذهب عنا شخصيات بارتحال أبدي، يمضون عنا ويتركوننا مجندلين بالحسرات. نمضي للوراء أيامًا وسنين، نتقفى آثارهم ونستل إرث الحكايات. ننظر في مرايا الزمن، نقلب ذكراهم بين مشاهد وأنفاس المرويات. وكم يشتد بنا الحنين لمحياهم كلما مر شيء يذكرنا بهم! نشم رائحة الأمكنة التي مكثوا فيها، ونتأمل الدروب التي مروا بها، نستعيد لقاءاتنا وأحلى السويعات التي قضيناها معهم في أنس وبهجة، نستحضرهم ألقًا من حبور، حتى يخيل إلينا بأنهم ما زالوا أحياء بيننا يُرزقون، ويكبرون في العيون منزلة ورفعة لجمال ما تركوه من أثر ذي قيمة تاريخية، نقلبه على مسرح الحياة مثل كتاب موزع بين الكفوف، نتهجاه لفظًا وقراءة جماعية بصوت خافت ومسموع، نتلو صفحات حبرهم المبلل بالشجن كنشيد مرسل على شواطئ الحب والعرفان.

تلاوين وجد وعرفان لصاحب المجد، طيب الذكر الراحل الحاج عبد الله التركي، الذي ترك أثرًا حيًا في نفوس كل من عرفه أو اقترب منه، وكل من عاشره، صغارًا وكبارًا يذكرونه بذكر حسن، ثناء مرسل حتى من الذين لم يجالسوه، تحايا لروحه الحانية وتقديراً لمكانته الأبوية المثقلة بإرث الأولين.

تراث تغنى به طويلًا وهو أحد صناعه، موثق بالصوت والصورة عبر مقابلات تلفزيونية وفيديوهات شخصية يحكي ويسرد ما طاب له مقامًا، محفوظة عبر منصات اليوتيوب.

تناثرت حكايا فيض من ذكريات الأمس تصفحناها قبل عدة أشهر عن آخر رجالات الغوص، النوخذة الحاج عبد الله بن تركي بن حسين التركي أبو عبد المعطي، لقب تمثله اسمًا على مسمى، فقد أعطى لمجتمعه كل ما جادت به نفسه من جهد وسخاء ووفاء.

ثمة شهادات مختصرة من بعض المتمرسين في عوالم البحر، العارفين لقيمة الراحل والمدركين لتاريخه الشفوي البحري، لقاءات جمعتهم به شخصيًا حيث تحلو الحكايا عن مجده وأسفار الأمس.

ثلاث شهادات ستُتلى من أناس جارهم البحر، خاضوا عبابه، وعلى ضفاف الأسياف تناثرت الذكريات معه مثل صور حية تأبى النسيان.

شهادة أولى

وها هو الحاج الفنان علي الشطي «أبو ناصر»، صانع السفن بيد واحدة، ذو اليد المبدعة المتفردة التي تنحت من الأخشاب فنًا وجمالًا، حيث يقول عن الراحل: ”عرفت أبو معطي التركي منذ بواكير شبابي، حيث تربطني به علاقة نسب قوية بعائلة العبيدي بسنابس، وكون هذه العائلة الكريمة تربطني بها علاقة وطيدة تصل لحد الأُخوة، وكنت أراه في جميع مناسباتهم، الأحزان منها والأفراح. كان يلفت انتباهي دائمًا من حيث شخصيته وأناقة ملابسه. قويت علاقتي به وتوطدت في السنوات الأخيرة من عمره، حيث كنت أذهب لمحله بالدشة، وهو محل صغير في زاوية منزله يزاول فيه بيع الأدوات والقطع من الستيل المقاوم للصدأ الخاصة بالبحر، من هنا بدأت أتعمق في شخصيته أكثر وأكثر. سألني ذات يوم عن اسمي فأخبرته بأني علي ناصر الشطي، مباشرة أوضح لي عن دور المرحوم والدي في حقبة الغوص، وقال حينها مادحًا: أبوك من الغاصة الهابين ريح دش ويا أهلي الغوص في جالبوتهم، وذكر لي اسم الجالبوت ولكن لا أتذكر الاسم الآن، حينها انتشينا بتذكارات سنين الغوص، طلبت منه بأن يسمعني موالًا إذا كان يحفظ شيئًا، تهلل وجهه فرحًا وكأنه وجد ضالته ففتح أمامي صندوق المواويل والزهيريات العذبة بين مثل وحكمة ومعزوفات الحنين. شاءت الصدف بأن نلتقي كمشاركين في أول فعالية تراثية تقام بجوار قلعة تاروت وهي «شتاء تاروت في نسختها الأولى»، كنا قريبين جدًا جدًا من بعض حيث الركن الخاص بي فانبهر بأعمالي من السفن متعددة الأشكال والأحجام وقد مدح كثيرًا أعمالي. ثم تواصلت مشاركاتنا معًا في أكثر من فعالية تراثية. حقيقة كم تحينت الفرص وركزت على السمع لما يقول حين يأتيه زائرًا، فكان يشرح له عن كل قطعة في السفينة التي بين يديه، اسمها ووظيفتها ومتى تستخدم، وبعض الأحيان يردفها بقصة أو مقولة صغيرة. وكان يذكر أسماء «هيرات الغوص» وأين مكانها، يتحدث بنهم شديد وكأنه يصف بيوت الفريق منزلًا منزلًا وكل محتوياته وكأنه أحد سكان كل بيت، يملك خارطة كاملة لقاع البحر، كنت أقف مندهشًا وهو يشرح للزوار بالتمثيل أمامهم ويستعيد حركة الغواص للتبة - النزول للقاع - يضع «الدين» في رقبته، والحجر بين أصابع قدمه و«الإفطام» في أنفه ويغوص، ثم يأتي دور «السيب» وهو الشخص الموجود على ظهر السفينة لمساعدة الغواص بسحبه بـ «التلاي» ويرمي أمام الزوار قطعة وهي كرة لعوامة خزانات المياه مربوطة بطرف حبال ثم يخبرهم بأن الغواص ظهر على سطح الماء وأمسك بـ «التلالي» فتم سحبه حتى وصوله بأمان للسفينة ويؤخذ منه «الدين» الممتلئ بالمحار وإفراغه وإعادته للغواص ثانية، وهذا كله يتم بالتمثيل المباشر وكأنه فعلًا يسرد فيلمًا سينمائيًا قد اختفى من العرض تمامًا! عرفته إنسانًا أجوديًا خلوقًا متواضعًا كما عرفه الآخرون“.

وصف يلامس شغاف القلب من محب للتراث ومولع بتمثل من ركبوا الفُلك بإبقائهم أحياء عبر نماذجه المصغرة من سفن الأجداد وكأن أبا ناصر يحاكيهم عبر محترفه المنزلي ليل نهار ويستعرض أمجادهم عبر عروضه مع الحرفيين المهرة في المهرجانات التراثية.

شهادة ثانية

ومن أبي ناصر إلى الأستاذ المعلم الفاضل علي القروص «أبو فرج» وهو بحار أبًا عن جد عارف ببواطن وخبايا البحر ولم يترك الأمواج إلا منذ سنين قليلة بعد أن استراح من عناء الصيد وألقى بزورقه بجوار منزله يئن من وحشة الهجران، كم كان يأنس لحكايا أبي عبد المعطي ويُسر لأحاديثه ويشاطره الهيام، كيف ينظر إليه الآن بعد شهور من الرحيل حيث يقول:

”الحاج المرحوم أبو عبد المعطي التركي موسوعة بحرية بامتياز، كان الراحل عارفًا بالبوصلة البحرية، المسماة بـ «الديرة» والتي تحتوي على 32 نجمًا أو أكثر مثل مطلع ومغيب ونعش وعقرب وسماك وعيوق وفرقد... إلخ، وكذلك عارفًا بالهيرات. هيرًا هيرًا، بل يعرف الهير وعمقه وتضاريسه من جميع الجهات ومكان المغاص فيه بتسلسل مواقعهم وأسمائهم، وهذا فيض من غيض. كلما اجتمعت معه دائمًا أقول له بإلحاح: يا أبا عبد المعطي دوّن لك كتابًا، دع أحد أبنائك يدوّن كل كلمة تقولها في هذا المجال، أنت ثروة كبيرة، هل أحد قام بذلك؟ لست أدري. أعتقد برحيل هذا الإنسان العملاق رحل معه تراث البحر والبحارة، ليس له بديل على مستوى المنطقة، الله يرحمه بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته وأن يحشره مع محمد وآله الطاهرين“. شهادة مقتضبة لكنها عميقة.

شهادة ثالثة

وآخر الشهادات لواحد مولع بالبحر حد النخاع الخاطف لشراع الوصل مع الأجداد وله مقابلات عديدة في هذا المجال، إنه النوخذة الحاج أحمد سلمان الحبيب المكنى بـ «أبو بليغ»، ماذا قال في ذكرى الراحل:

”المرحوم الحاج عبد الله بن تركي، الله يرحمه بواسع الرحمة، كان موسوعة في عالم البحار ومخضرمًا من الرعيل الأول ومليئًا بالمعلومات البحرية من أيام الغوص وهو طفل إلى أن كبر ودخل مع والده الغوص لسنين عديدة، تعلم أمور وفنون الغوص، وهو على معرفة تامة بمجريات الغوص بسفنه وأوقاته ورجالاته وحكاياته. وبعد أن انتهى زمن الغوص نهاية الأربعينات انتقل للعمل في شركة أرامكو بقسم البحر، يعني في ذات مجاله البحري، مسافرًا لبلدان عديدة عابرًا الخليج من شماله إلى جنوبه ومت شرقه إلى غربه واصلًا للهند وأقاصي أفريقيا. كما كانت له لمسات في فنون الطرب الشعبي وبالخصوص في مناسبات أفراح أهالي جزيرة تاروت حسب إفادته الشخصية لي. وفي الآونة الأخيرة من عمره كان له دور في إحياء التراث البحري حاضرًا في مهرجانات المنطقة، رحيله خسارة لا تعوض“.

إنها شهادة شخص جاره البحر وابن نوخذة أبًا عن جد، ملمًا بكل أجواء الغوص، ويعتبر أحمد الحبيب «أبو بليغ» أول رجل أجرى مقابلة مرئية مع أبي عبد المعطي وقد فتح خزائن ذاكرته البحرية باقتدار، كان ذلك سنة 2011 م، مقابلة مطولة موجودة على قناة اليوتيوب تحت عنوان «أبو عبد المعطي، لقاء خاص وتاريخ الغوص في سنابس». وكان ضيف الشرف في الحوار الحاج علي محمد العليوات «أبو عبد الخالق» والذي وثق هذه المقابلة القيمة المصورة زكريا حسن الزوري، وتم التصوير على سطح منزل الحاج عبد الله بن تركي بن حسين التركي في تاروت بمنطقة الدشة الشمالية، ثم أعيد التصوير ثانية في مجلس بيته في ذات اليوم. مقابلة شاملة متنوعة كانت في الأصل مدتها ساعتان وبضعة دقائق واختزلت إلى ساعة وسبع وثلاثين دقيقة، حوار شيق ينسيك الزمن الحاضر ويرتد بالمشاهد عقودًا للوراء، تقريبًا عند منتصف القرن الماضي حيث الحياة بحلوها ومرها وألقها وبطولات وعذابات رجال البحر، وقد عرجت على تفاصيل عديدة لزمن الغوص وتلاوين الفنون الشعبية، مقابلة تعتبر مرجعية بحرية واسعة كان ينقصها فقط إدخال الصور الثابتة والمتحركة المناسبة لتنقلات الحوار، تلك المقابلة فتحت العيون لغير القادرين على المحاورة البحرية بشكل صحيح، اجتهدوا بتقديم حوارات مختزلة وغير مترابطة، قليل منها جيد جدًا وأما الباقي مجرد استفسارات واستفهامات تائهة ومبعثرة، إجمالًا قاموا بجهد يشكرون عليه حتى لو كان دون المستوى، يكفي شرف التوثيق لجوانب من ذاكرة أبي عبد المعطي البحرية المتشظية، وبكل الحب والتقدير لمساعيهم الخيرة وحسنًا فعلوا، أظن قد فات الجميع أن ينبشوا ذاكرة بن تركي البعيدة عن أمواج الماء!

أبو عبد المعطي في المهرجانات التراثية

يقام حاليًا في ليالي شهر رمضان المبارك مهرجان قلعة تاروت في نسخته الرابعة لكنه خالٍ من وجود آخر نوخذة، حيث كان حاضرًا خلال النسخ الثلاث، متفاعلًا بشرح وافٍ عن عوالم الغوص، عبر سفينته التي أتقنها صنعًا بحجمها الكبير، يفصل ويبين للزوار بقلب مفتوح عن زمان مضى مستذكرًا الحكايات ومعددًا أسماء وأدوات ومتعلقات السفن الخشبية من بداية تفصيلها مرورًا بمراحل إنشائها إلى حد تدشينها في حضن الماء، يرحل مع السائلين أزمانًا وأمكنة مختلفة، جيل اليوم كان يقف منبهرًا بأسلوبه الحكائي عن رجالات الغوص ومعاناة من فقدوا أرواحهم من أجل لقمة العيش، أغلب الحضور يستأنسون بحديثه الطلق وشرحه المستفيض وترنمه بالزهيريات والمواويل وجر النهمات.

غياب مؤثر

كاتب السطور كان عاقد النية لتوثيق سيرة الراحل كاملة عبر حلقات متواصلة، وبدأ التجميع أثناء المهرجان الأول لكن الحوار يتقطع ويتشتت بسبب زحمة الزوار، همس في أذني «في غير وقت نكمل يا بن حجي محمد»، تواعدنا بتحين فرصة مناسبة لنلتقي في دكانه بالدشة لكن التسويف من جانبي أجل اللقاء المرتقب وكلما يلتقيني بعد التحية والسلام يقول لي «متى بتمرني يا بن شلي»! مرت الأيام وإذا بي أقرأ الفاتحة على قبر آخر رجالات الغوص. يا غائبًا عنا زوار هذا العام 1446 هـ، محبوك يفتقدون طلتك الجميلة يا جميل الصفات يا حلو السجايا، نعم فقد كنت أحد أيقونات مهرجان قلعة تاروت بحضورك الفتان والمبهر. أزفر الآهة والتنهيد للأثر الشامخ منذ قرون وأقول ثمة أرواح تظل شامخة في جبين ذاكرة المجتمع، أنت أنت يا أبا عبد المعطي التركي نرى طيفك منعكسًا على جدران قلعة تاروت ووجهك متبسمًا، فأحاديثك لم تبرح تداعب خيال الأزمنة ونهماتك عبقة بالأمكنة، روحك متألقة في ضمائر العارفين.