الحروب المعاصرة والتحولات بموازين القوة
حيثما يمّمنا النظر، في القارات القديمة الثلاث: أسيا وإفريقيا وأوروبا، نتابع أخبار حروب تزداد أواراً، لعل الأبرز بين هذه الحروب، هي الحرب في السودان وقد بدأت في 15 نيسان/ أبريل، وقد تسببت في نزوح الملايين من السودانيين إلى خارج وطنهم، في ظاهرة لم يعرف لها تاريخ السودان المعاصر مثيلاً، كما تسببت في انتشار الأمراض والأوبئة، والجوع وانتهاك الأعراض، وانفلات الأمن، وليس في الأفق ما يشي بقرب نهايتها.
والحرب التي أطلقت عليها حكومة الرئيس بوتين بالعملية الخاصة ضد أوكرانيا. واشتعلت منذ 24 شباط/ فبراير عام 2022، ورغم أن الفاعلين المباشرين في الحرب، يتمثلون في الحكومة الروسية بقيادة الرئيس بوتين، وأوكرانيا بزعامة زيلينسكي، فإن التدخل الغربي فيها بات أكثر وضوحاً ومباشرة، وليس هناك أي أفق لوقف هذه الحرب، ولهذه الحرب عمق تاريخي، يتمثل في كون أوكرانيا ذاتها، لفترة طويلة كانت جزءاً من روسيا القيصرية، ومن الإمبراطورية السوفييتية لاحقاً.
والحرب على غزة، التي بدأت إثر انطلاق ما عُرف ب «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023. ولهذه الحرب علاقة مباشرة بالاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة، الذي أخذ مكانه في حرب الأيام الستة، التي أطلقتها إسرائيل، ونتج عنها احتلال الضفة الغربية ومدينة القدس الشرقية وقطاع غزة، ومرتفعات الجولان السورية، وشبه جزيرة سيناء، وأيضاً تراجع الحكومة الإسرائيلية عن اتفاقية أوسلو، التي جرى التوقيع عليها، برعاية أمريكية في 13 أيلول/ سبتمبر عام 1993، بين منظمة التحرير الفلسطينية، بقيادة ياسر عرفات ورئيس الحكومة الإسرائيلية اسحق رابين، وقد جرى التوقيع على تلك الاتفاقية بالبيت الأبيض بحضور الرئيس الأمريكي، بل كلينتون، وكان المؤمل أن تجري المفاوضات النهائية حول القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، لكن اغتيال رابين وعودة اليمين المتطرف للحكم في إسرائيل، حال دون تحقيق السلام.
الحرب في لبنان، بدأت في شكل مساندة لقطاع غزة، والمطالبة بإيقاف حرب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، لكنها تطورت لاحقاً بعد حملة الاغتيالات الواسعة، التي شنتها حكومة نتنياهو، وقد وسع الجيش الإسرائيلي من عملياته في لبنان، حتى تحولت إلى حرب شاملة، اعتباراً من 30 أيلول/ سبتمبر عام 2024.
ما علاقة هذه المقدمة بموضوع التحولات في النظام الدولي المرتقب؟!
التجربة التاريخية، تؤكد أن التحول في موازين القوى الدولية، الذي هو المقدمة اللازمة لانبثاق نظام دولي جديد، تضع الهزيمة الكاملة لأحد أقطاب المعادلة الدولية، كشرط لازم لانبثاق هذا النظام على أنقاض النظام السابق. هكذا كان الحال في الحرب العالمية الأولى، التي أسقطت ألمانيا والسلطنة العثمانية، وأطاحت بروسيا القيصرية. وهكذا كان الحال أيضاً، حول نتائج الحرب الكونية الثانية، التي أزاحت الاستعمار التقليدي، المتمثل في فرنسا وبريطانيا، عن بقاع كثيرة من الكرة الأرضية، في القلب منها كان الوطن العربي.
وكان من أهم نتائج الحرب العالمية الثانية، هو استقلال معظم أقطار الوطن العربي، وتربع الدب القطبي واليانكي الأمريكي، على عرش الهيمنة الدولية، حيث بات العالم، حتى سقوط حائط برلين في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، يحكم بثنائية قطبية أمريكية - سوفييتية، ومنذ سقوط تلك الثنائية، باتت الولايات المتحدة، المتربع الأوحد على عرش الهيمنة العالمية.
لكن العودة السريعة للدب القطبي، واستيقاظ التنين الصيني، وصعوده الاقتصادي الكاسح، قد خلقا واقعاً دولياً جديداً، يصعب تجاهله، إن ذلك يعني أن الولايات المتحدة، لم تعد وحدها في الساحة، إلا أن التسليم بذلك من قبلها ليس أمراً سهلاً، ولا يمكن أن يعيد التاريخ ذاته، بإشعال حرب عالمية ثالثة، تحسم عملية الانتقال إلى نظام دولي جديد، فمثل ذلك الأمر بات عملاً مستحيلاً، بسبب تفاقم القدرات النووية لدى الفاعلين في صناعة القرارات الأممية، ولو حدث مثل ذلك لا سمح الله، فإنه سيكون فناء محتماً للجنس البشري بأسره، ولذلك كانت حروب الوكالة هي البديل عن تلك الحروب.
حروب الوكالة، تقتضي اعترافاً صريحاً من القوى الكبرى، التي تشعلها بتراجع قوتها، في حساب موازين القوة، بما يقتضي التوصل إلى تفاهمات ضمنية يعترف فيها كل طرف بمصالح الأطراف الأخرى، وهو ما لم يتحقق حتى يومنا هذا، والبديل عن ذلك هو سيادة الانفلات واتخاذ حروب الوكالة أشكالاً جديدة مغايرة، لما كانت عليه في السابق.
لقد كان من حسن طالع شعوب العالم الثالث، أن وجدت قادة يعملون على تجنب مزالق الانسياق مع طرف دولي ضد آخر، والبديل كان تأسيس كتلة عدم الانحياز، والنأي عن الأحلاف، وبروز مبادئ الحياد الإيجابي، وذلك ما هو مغيب عملياً، حتى هذه اللحظة. وسوف تستمر حالة الانفلات الدولي، ولأسباب تتعلق بالموقع الاستراتيجي لمنطقتنا، فإننا المرشحون لأن نكون من ضحاياها الرئيسيين.
ستستمر الفوضى، في بلدان العالم الثالث، ما لم تتمكن شعوبه من الإمساك بمقاديرها، وتؤمن استقلالية قراراتها، وتتخلص من تبعيتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية للقوى الكبرى، وما لم يتحقق ذلك، فإن البديل، هو استمرار الصراعات والحروب، بمختلف أشكالها.