آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 2:52 م

أكد أن الدولة تحمي المواطنين لا الطائفة ولا القبيلة

حسن المصطفى: التفكير النقدي والرؤية المدنية يحجّمان ثقافة الموت

جهات الإخبارية صحيفة عكاظ

لعلّ فتح مساحة حوار، مع صديق بقامة ومقام الباحث حسن المصطفى، إثراءٌ للمُحاوِر قبل القارئ، بل وطمأنة كون ما يدور في الذهن يُقلق إلى أن يأتي من يتقاسمه معك دون ريبة، هنا مثقف، لا يضع الكلمة إلا في موضعها، ويحرص بأن يكون لها معنى واحد، كما أنّ حسه الصحفي بحكم مكثه زمناً مضيئاً في بلاط صاحبة الجلالة، يزيل من نفسه سوء الظن بالسؤال والسائل، ويفتح أبواب حسن الظن للإغراء باستنبات المزيد من عطاء حقل الإجابات البهيج.. وهنا حوار الساعة حول قضايا مركزية تستوعب مثاقفة الدين والدولة بسقف حريّة لا يكاد يُرى، فإلى نص الحوار:

هل اعترى الهويّة الوطنية في العالم العربي، ضبابية لبّست عليها وأضلتها الطريق؟

الهوية في الوطن العربي تعاني التباساً معرفياً كبيراً، فهي دائم ما يتم تقديمها بشكل مشوه، ومتصادم، وكأن العرب بين خيار الثنائيات المتضادة، وأن عليهم الاختيار بين هوية أو أخرى، وإلا سيكون الفرد العربي فاقداً لهويته!

هذا الفهم الملتبس للهوية، سببه حداثتها، كون ”الهوية الوطنية“ تحديداً، مفهوم جديد نسبياً، ولقي معارضة من تيارات عدة؛ إسلاموية وقومية وشعوبية، ما جعل مفهوم ”الوطن“ هو الآخر مشوشاً لدى البعض، بين من يؤمن به بطريقة انعزالية ومن يلفظه ويقدم عليه مفهوم ”الأمة“.

أمر آخر، الهوية دائماً تحضر أحادية، جامدة، فيما الهوية كائن حي، يتشكل ويتكون مع الوقت والتجارب والأفكار والجغرافيا والإيديولوجيات؛ أي أن الهوية الفردية هي مجموعة هويات متداخلة ومركبة، نتاجها الهوية الجماعية والوطنية، لذا هنالك هوية فردية تتكامل مع الوطنية، دون أن يكون الإنسان في حاجة لأن يعيش التناقش بين هوياته، بل عليه أن يعرف كيف بجمع بينها، وفي ذات الوقت كيف يعلي من شأن ”الهوية الوطنية“ التي مدماكها ”المواطنة الشاملة“؛ التي هي إحدى أركان الدولة المدنية الحديثة.

لماذا ما زالت تتنازع الفرد وربما بعض المجتمعات أكثر من هويّة في وقت واحد؟

ليس هنالك مشكلة في وجود أكثر من هوية واحدة، بأن أكون مسلماً وعربياً وسعودياً في آنٍ واحد، على سبيل المثال.

الهويات الفرعية التي تنتمي للدين أو العرق أو القبيلة أو المنطقة، ليست مشكلة في حد ذاتها، فهي مكون ثقافي واجتماعي ومصدر ثراء وتنوع. الإشكالية عندما يعيش الإنسان صراع الهويات وتضادها، أو يتم تقديم الهوية الضيقة على الهوية الجامعة، لذا، الأساس هو الدولة المدنية بهويتها الحديثة التي هي في طور التشكل والتكامل والتنوع بين الهويات الأقل التي تنطوي تحتها.

يجب ألّا ننسى أن ”الهوية الوطنية“ لم يتم التنظير لها عربياً بصورة علمية متخففة من الحمولة الصراعاتية التأريخية أو العرقية أو الطائفية، ما جعل هذه الهوية في مرحلة صدام مع بقية الهويات. من هنا تأتي الحاجة لهوية وطنية حديثة، مرنة، قادرة على أن تجمع المكونات المختلفة وتحويلها لعناصر قوة لا فرقة.

من منطلق قراءتك الموضوعية لمراحل التحولات، أيُّ مرحلة تجلّت فيها روح المواطنة السعودية؟

الروح الوطنية السعودية حاضرة برأيي منذ تأسيس الدولة الحديثة، ودليل ذلك قدرة الراحل المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن آل سعود، على توحيد الدولة، والتفاف الناس حوله وقبولهم بحكمه، لأنه لو عدنا إلى التأريخ سنجد أن بعض مناطق المملكة كانت تعاني من قطاع الطرق والصراعات القبيلة والنهب والاعتداء على القوافل بين حين وآخر، وأتى الملك عبدالعزيز ليبسط الأمن على أرض المملكة المترامية الأطراف، والمتعددة الثقافات والعادات والمذاهب، وتعامل مع المناطق المختلفة بوعي شديد، محافظاً على هوية كل مدينة أو جماعة بشرية، وهذه نقطة قوة لدى الملك المؤسس ودليل على بعد النظر.

إذن، الروح الوطنية السعودية موجودة على الدوام. الذي استجد، وعي السعوديين بهويتهم، ونظرتهم لها، ورغبتهم في إعلاء شأنها، وأيضاً وجود ثقافة بدأت تنتشر بشكل واضح عن أهمية ترسيخ حكم القانون والعدالة والمساواة ومرجعية الدولة، وهذه المفاهيم ترتبط بشكل أساسي مع ”المواطنة الشاملة“؛ التي رغم كونها مفهوما حديثاً، إلا أن الوعي بها تجده في نقاشات الكتاب السعوديين وعلى الشاشات وفي السوشال ميديا.

بالتأكيد هنالك فجوات ما في الأفكار ولدى الجمهور العام، وهذا أمر طبيعي جداً، إلا أن الروح الوطنية تتنامى يوماً بعد آخر، والأهم أن تتشكل بطريقة علمية واعية، بعيداً عن إعادة إنتاج الذات على طريقة الشعراء في الوجدان العربي، الذي هو وجدان في بعض الأحيان إيهامي أكثر منه علمي!

كيف ترى مستقبل المراهنين على مكونات ما قبل الدولة ”قبيلة، طائفة، منطقة، مذهب“؟

مكونات ما قبل الدولة لا يمكن أن تشكل دولة مدنية حديثة، ولا أن تؤسس إجماعاً وطنياً واسعاً.

القبيلة والطائفة والمذهب والمنطقة، كلها تفاصيل محترمة، وأمر واقع لا يمكن إنكاره، إنما يجب ألّا تقدم كل هذه الهويات الفرعية على الوطن، لأن الأساس هو الوطن، وبقية التنوع الثقافي والاجتماعي يأتي من تحته وفي إطار تنوعه.

ما أبرز ملامح المواطنة في ظل رؤية 2030؟

قوة رؤية 2030 خلقت روحاً وطنية عالية، ومنحت الأمل للسعوديين، ودفعتهم للفخر بأنفسهم، وهو فخر قائم على العلم والعمل والوعي وبناء الدولة القوية والمشاركة في الحضارة الإنسانية.

في ذات الوقت، عملت الرؤية على ترسيخ المساواة وتكافؤ الفرص ومنعت المحاباة أو التمييز القبائلي أو المناطقي أو الطائفي، وجعلت الجميع سواسية أمام القانون؛ ما يعني أنها أعلت من قيمة ”المواطنة“ قبالة التمايزات الأخرى!

من أين تؤتى الدول التنموية، وكيف تفادت المملكة كافة الإشكالات التي حاول البعض جرّها إليها؟

التنمية لا يمكنها إلا أن تتحقق من خلال نظام تعليمي متقدم، وخطط اقتصادية بعيدة المدى، وقوانين حديثة مرنة وشفافة، وبيئة آمنة مستقرة، وأيضا حوكمة للعمل الحكومي والمؤسساتي.

هذه التفاصيل ركزت عليها ”رؤية المملكة 2030“، وتحدث عنها في أكثر من مناسبة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان آل سعود؛ الذي أشار لأهمية التشريعات والإصلاحات الإدارية في تطور الدولة، وهذا ما جعل المملكة تتفادى الترهل أو البقاء رهينة البيروقراطية الحكومية.

ما سرّ انكسار كافة الحواجز بين الشعب السعودي، وخفوت أو اضمحلال تدجين الفرز؟

الجواب بشكل مبسط، أن السر يكمن في الخطاب الصريح والواضح لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، ورفضهما للتقسيمات المذهبية والمناطقية والعنصرية، وتركيز المقام السامي على أن السعوديين سواسية لا فرق بينهم.

من جهة أخرى، عملت المملكة على سنِ قوانين تجرم خطابات الكراهية والعنصرية، وقامت بخطوات لإصلاح الخطاب الديني، وإبعاد المتشددين عن منابر الجمعة، وتجريم الخطابات الطائفية، وكل هذه خطوات حصنت المجتمع وجعلته أكثر وعياً بأهمية المواطنة.

ألا ترى أن المكوّن الشيعي نجح في إعلاء خيار المواطنة على ما سواه؟

المواطنون في القطيف والأحساء والمدينة، ونجران، وكافة المناطق، هم سعوديون أولاً وقبل كل شيء. ولاؤهم لوطنهم، ويرفضون العبث بأمنه واستقراره، وهم منخرطون بشكل إيجابي في تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030.

ما جعلهم ينجحون اليوم، هو قوة ”الرؤية“ وعرابها الأمير محمد بن سلمان؛ الذي وفق توجيهاته عملت مؤسسات الدولة على تنقية البيئة العامة من المتشددين والتكفيريين من مختلف المذاهب.

الآن هنالك وعي كبير وواسع لدى جمهور عريض من المواطنين أنهم سعوديون أولاً، وأن سعوديتهم تسبق هويتهم المذهبية؛ سنية كانت أم شيعية، وأن هذه الهويات المذهبية لا يجب أن تتحول لعنصر صدام أو شحناء، بل الجميع مواطنون سعوديون مسلمون متساوون في الحقوق والواجبات، وأن الولاء للوطن وقيادته السياسية وليس لأي أحزاب أو تيارات أو دول خارجية.

ما دوافع مثل هذا الإعلاء الحضاري؟

الدافع الأساسي الإيمان بأن الدولة هي من تحمي المواطنين، وأن الطائفة أو القبيلة لا تحمي.

ما يحمي المواطنين ويحقق لهم الرفاهية هي الدولة الوطنية القوية والمستقرة، التي تقوم على المؤسسات وحكم القانون واحترام التعددية الثقافية والاجتماعية.

متى شعرت أن الثقافة والوعي تعزز الانتماء للوطن؟

الثقافة دائماً ما تعزز الانتماء الوطني، لأنها تصنع وعياً بأن الاختلاف عنصر ثراء، والتعدد عنصر قوة، وبالتالي تتحول هذه الثقافات الفرعية إلى مصادر ثراء، وهذا ما نجد الآن - على سبيل المثال - ”وزارة الثقافة السعودية“ تعمل عليه من خلال برامجها وهيئاتها المختلفة، سواءً من خلال التعدد في الأزياء أو المطابخ أو اللهجات أو طرائق الكتابة والتفكير.

هل مررت بفترات حرجة على مستوى شخصي؛ بسبب طرحك الوطني المشبّع بصدق العاطفة؟

الغرائز دائماً سهل إثارتها، لذا تجد الأصوات العالية أو المذهبية أو الأحادية تؤثر بشكل واسع؛ لأن العواطف تحكم العقل الجمعي؛ لذا ما أسعى لتقديمه من أفكار هادئة، عقلانية، وطنية، تناقش بصراحة دون شتيمة أو ازدراء أو تجريح، هذا الطرح النقدي الهادئ، لا يحبه كثيرون، لأنه لا يشبع غرائزهم، ولأنه يقدم نفسه فوق الطائفة والمذهب والمنطقة والقبيلة؛ من هنا طبيعي أن أجابَه، في كثير من الأحيان، باعتراض من الصقور من أكثر من ضفة متعارضة! إلا أن هذا أمر لا يجب أن يدفعني إلى التراجع أو الانكفاء، إنما مواصلة العمل الوطني، لأن الهدف هو الإصلاح وليس الهدم. الهدف هو بناء مجتمع تعددي حقيقي ومتقدم، يحقق ما جاءت به رؤية المملكة 2030.

بين غرائزية البعض، وطائفية آخرين في عالمنا العربي؛ بماذا يمكن إقناعهم بالالتفاف حول كلمة سواء؟

صراحة، الوضع حرج جداً، خصوصاً في ظل الحروب والأزمات الحالية في الشرق الأوسط، لذا شخصياً أرى أن علينا الآن أن نلتف حول قيادتنا في السعودية، وأن نقوي وحدتنا الوطنية، ونكون حذرين من استجلاب الأزمات من الخارج، أن نرفض الخطابات المذهبية والعنصرية؛ التي يسعى البعض لإثارتها في المجتمع السعودي إما جهلاً أو قصداً أو لأهداف حزبية!

من نعم الله أننا في دولة قوية، مستقرة، منشغلة بالتنمية والمشاريع الكبرى الاقتصادية والاجتماعية، ويحكمها القانون، لذا هذه عناصر قوة يجب الحفاظ عليها وتدعيمها.

كيف نوائم بين أطروحات كبار الفلاسفة الفُرس ”النورانية“ وبين سياسات النظام المنفصلة تماماً عن تلك الأفكار الخلاقة والإنسانية؟

المدخل لذلك، الفصل بين الشعب والعلماء المفكرين المدنيين من جهة، والنظام السياسي الحاكم من جهة أخرى، هذا أولاً.

ثانياً: من المفيد أن تكون قراءتنا للأحداث علمية بعيدة عن النظرة العنصرية أو العرقية، أو التفسيرات المسبقة.

السعودية اليوم في سياستها الخارجية، تعمل على بناء علاقات حسنة مع إيران، قائمة على حسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ونبذ الخطابات الطائفية. والمملكة في هذا الصدد لديها نهج عقلاني، بعيد عن المناكفات السلبية، قائم على رؤية بعيدة المدى، تسعى من خلالها لتخفيف الأزمات والحد من التوترات، وهي سياسة تحتاج صبراً كبيراً وتماسكاً، إلا أنها فعالة، وبدأت تؤتي ثمارها.

تجربة المملكة تنظر فيها الرياض للشعب الإيراني باحترام، كونه جاراً لنا، وفي ذات الوقت تسعى لمعالجة الملفات العالقة مع النظام الحاكم عبر التواصل والحوار الصريح والشفاف، وأيضا بناء الثقة خطوة بخطوة، فهي تنظر إلى الأفعال وليس مجرد الأقوال.

ما قراءتك لمستقبل الطائفية في عالمنا العربي؟

الطائفية عربياً، للأسف الشديد تزدهر؛ بسبب الجهل والتعصب وتغذيتها من المتطرفين، وأيضا هنالك جهات استخباراتية تريد للعرب أن يبقوا في حروب عبثية طائفية لا جدوى منها، وللأسف هنالك من العرب من ينفذ هذه المشاريع الكريهة دون وعي.

سعودياً، لدينا نقطة مضيئة، أن الدولة تقف بقوة ضد الخطاب الطائفي، وترفضه بشكل قاطع، وتحاسب من يروجه. كما أن المجتمع في أوساط واسعة منه يرفض الطائفية، وهنالك أيضا خشية لأثر الصراعات الطائفية السلبي على المجتمع، لذا يسعى السعوديون لأن لا يستجلبوا الأزمات من الخارج.

بالتأكيد هنالك أصوات طائفية في الداخل، إلا أنها تخشى الجهر برأيها لخشيتها من القانون، وعملية التغيير الأوسع تحتاج وقتاً أطول، إلا أنها بدأت.

بماذا يمكننا تحصين أجيال شابة من مصل ثقافة الموت؟

المزيد من التفكير النقدي الحر، والرؤية المدنية، والنظر للدين بوصفه رحمة للعالمين، وحجر زاوية للسلم المجتمعي.

المراجعة الصريحة للخطابات الأصولية، ونزع القداسة عن رموز العنف، وتفكيك خطابهم بعلمية، دون شتائمية ودون سطحية في التعاطي، كل ذلك من شأنه أن يصنع وعياً يحول دون انتشار ثقافة الموت، إلا أنها بالتأكيد عملية طويلة تحتاج فعلاً تراكمياً وعملاً مؤسساتياً.