مراجعة لكتاب الإسلام والإصلاح الثقافي
- الكتاب: الإسلام والإصلاح الثقافي.. لماذا نحن بحاجة إلى إصلاحات ثقافية؟
- المؤلف: زكي الميلاد.
- الناشر: مركز آفاق للدراسات والبحوث - السعودية
- سنة النشر: 1442 هـ / 2020م، الطبعة الثانية.
- الصفحات: 278 من القطع الوسط.
يُعتبر مفهوم الإصلاح مفهومًا أصيلًا في الثقافة الإسلامية، بالنظر إلى عديد الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة الداعية إليه. ولأهميته وأصالته قرن الله تعالى بين الإيمان والعمل الصالح في أكثر من سبعين آية ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، إذ من شروط الإصلاح والتغيير الإيمان الصادق، فلا يمكن لأيَّة أمة أو جماعة أو حركة، أن تقوم بالإصلاح إلَّا إذا استطاعت أن تُحوِّل قيمها إلى إجراءات عملية، فالإنسانية عامَّة، والمجتمع العربي الإسلامي خاصَّة، في حاجة ماسَّة لتأصيل التعامل مع السُّنَن الإصلاحية الجارية في التاريخ، وما يتَّصل بهذه السُّنَن من العلل والأسباب؛ أسباب قيام الدول وعلل سقوطها، وسُنن العمران والاجتماع الإنساني كما نبَّه إلى ذلك ابن خلدون في مقدمته، أو على الأقل إعادة التعامل معها على نحو فاعل وصحيح،“فقد أفاد ابن خلدون من منطق القرآن فيما نصَّ عليه من سُنن في تاريخ الأقوام والشعوب، أو تاريخ الاجتماع الإنساني في بلورة نظريته الاجتماعية”[1] .
لذلك كان لا بد من مراعاة السياق التاريخي، بمعنى دراسة الآليات الداخلية المنتجة للتصوُّرات المتعلِّقة بالإصلاح والتغيير، والمتعلِّقة ببناء الأُمَّة والدولة والمجتمع. خصوصًا إذا علمنا أن واقع الانحطاط والتردِّي والانحدار الذي تعيشه الأُمَّة العربية والإسلامية أمر في غاية الصعوبة والتعقيد، وأن الخروج من هذه الأزمة، لا يمكن أن يحصل إلَّا عبر إحداث تغيير كبير في ثقافة الأمة، حتى تتحرَّر من العوامل المُكبِّلة لعملية نهوضها. وهذا ما جاء به كتاب“الإسلام والإصلاح الثقافي.. لماذا نحن بحاجة إلى إصلاحات ثقافية؟ ”.
يُعدُّ هذا الكتاب لمؤلفه الأستاذ زكي الميلاد دراسة مُعمَّقة في الإصلاح الثقافي، يُركِّز فيه على هذا النوع من الإصلاح، وعلى أسباب تخلُّف المسلمين عن الركب الحضاري، ويُحدِّد العناصر الأساسية لاستراتيجية شاملة متوازنة للإصلاح الثقافي، وإعادة البناء، والتي تتجلَّى في محاذير الرؤية الإسلامية، المتعلِّقة أساسًا بالكراهية والتعصُّب والتطرُّف والعنف والإلحاد...
سعى المؤلف في هذا الكتاب إلى تعميق النظر في مفهوم الإصلاح الثقافي، باعتباره مركزًا وأساسًا في عملية الإصلاح، والتي انبعثت بزخم كبير في بداية الألفية الثالثة الجديدة، وسط مجتمعات العالم العربي والإسلامي، أما مركزيته فيظهر جليًّا من الناحية العملية، إذ يتحرَّك المفهوم في اتِّجاه خاص وآخر عام، فأما الأول فهو المتعلِّق بالمجال الثقافي من دون غيره، مُتحدِّدا به شكلًا ومضمونًا، فيما الثاني؛ وهو الذي جاء عامًّا، ويتعلَّق بباقي المجالات الأخرى، سياسية كانت، أو اجتماعية، أو تربوية، أو اقتصادية... لأنها تظل دائمًا في حاجة إلى الثقافة والإصلاح الثقافي.
والشيء الذي يُثير الإعجاب في هذا العمل، هو أن الكاتب اعتمد فيه على تجربته المتراكمة في الحقل المعرفي والثقافي الذي ينتمي إليه، من دون حاجة إلى الاتِّكاء على أكتاف من سبقه في المنهج والمسلك، بل مواصلًا العمل ومساهمًا.
قسَّم المؤلف كتابه إلى ثلاثة فصول مترابطة كمًّا وكيفًا، بالإضافة إلى مدخل مفاهيمي يُوضِّح فيه معنى الإصلاح الثقافي، مع مقدمتين مختصرتين، الأولى للطبعة الثانية «موضوع المراجعة»، والثانية للطبعة الأولى، الصادرة عام 2006م، أثار فيها أهمية الإصلاح، وضرورة استغلال اللحظة التاريخية، واقتناصها وتوجيهها، وتصييرها فعلًا تاريخيًّا، بقصد تغيير الأوضاع المتردِّية والبائسة، عساها تُعيد الروح في أُمَّة كاد يخرج منها من دون عودة. أما المنطلق فيكمن في الاقتداء بفكرة الأنوار الأوروبية، وتحويل الفكرة إلى فلسفة، وتعميق أبعادها المعرفية، وتحويلها إلى فلسفة تكون غنية بالمعاني والدلالات الخلَّاقة والمُشعَّة.
ومن الأسئلة المهمَّة التي أثارها الميلاد: ما الإصلاح الثقافي؟ ما أهم الظواهر والآفات الاجتماعية التي تحول دون إصلاح شامل داخل المجتمعات العربية والإسلامية؟ إلى أين وصلت أهم المشاريع الإصلاحية؟ ولماذا فشلت؟ ماذا كسب المسلمون من تقدُّم العالم؟ متى ندخل عصر النقد الفكري؟ ومتى نصل إلى مجتمع معرفي قادر على تجاوز الأزمة؟ ما المقصود بالتنوير الديني والوسطية والسِّلْم والتسامح الإسلامي؟ وما تجلِّياتها؟ وغيرها من الأسئلة الجادَّة، والتي إن دلَّت فإنما تدلُّ على فارق الهوة بين الشرق والغرب من جهة، وعلى أن وتيرة الانحطاط قد ازدادت في العقود الأخيرة إلى أن وصلت أدنى مستوياتها.
لقد شدَّد الإسلام كثيرًا على دور الإنسان في تحقيق الإصلاح، بمنطق التقويم والتهذيب والتغيير التدريجي، للمضي قدمًا نحو تحقيق التنمية الشاملة، وأكَّد على ضرورة أن تكون ثمار التنمية موزَّعة بالإنصاف على جميع أفراد المجتمع، لتمكينهم من تلبية احتياجاتهم المادية والمعنوية، وزيادة مُدَّخراتهم من أجل الاستثمار، وتطوير مؤسساتهم الاجتماعية والاقتصادية والقضائية والتعليمية والسياسية... مما يُؤدِّي إلى تقوية شوكتهم، ومضاعفة دوافعهم للعمل الجاد والفاعل والمثمر.
ولعل محاذير الرؤية الإسلامية، هي أحد أهم الأبواب الفاتحة للعقل، والمُتفتِّحة على المجتمع، وأحد أهم العوامل المرتبطة بالتنمية الأخلاقية والفكرية للأفراد والمجتمعات، كما يرى المؤلف، وهو ما يتعلَّق أساسًا بالاتحاد ضد الكراهية، والتعصُّب والتطرُّف والعنف والإلحاد... لأنها تمتصُّ من الإنسان جمالية القيم والأخلاق النبيلة، وحسن الجوار، وتُطفئ فيه شعلة الضمير، وجذوة الروح. وليس هناك أقوى من الثقافة في مواجهة هذه الظواهر والآفات المُدمِّرة للمجتمع؛ لذا وجب تفعيلها واستغلالها بالشكل الأمثل لمواجهة كل ما يُضعف الأمة.
افتتح الأستاذ زكي الميلاد الكتاب بمدخل عام، خصَّصه لتدقيق الجهاز المفاهيمي، الذي اختاره في مقاربة مسألة الإسلام والإصلاح الثقافي، فحدَّد بداية عالم الأفكار وشبكة التصوُّرات الذهنية، مجالًا ينتمي إليه الإصلاح الثقافي، وميدانًا فاسدًا ومُعوَّجًا يحتاج إلى تقويم؛ لأنه يُؤثِّر على التوازنات الداخلية داخل المجتمع. وتنقَّل بين الأطروحات التي كان لها السبق، في مناقشة مسألة الإصلاح الثقافي فيما سُمِّي بالعصر الإسلامي الحديث، بدءًا بالشيخ محمد عبده في مصر، الذي تحدَّدت قضيته الفكرية بتحرير الفكر من قيد التقليد، وإصلاح نُظُم التعليم، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة. وكذلك الدكتور محمد إقبال في الهند، الذي عُرف واشتُهر بكتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، وبَعده المفكر مالك بن نبي في الجزائر الذي لفت انتباه الجميع عندما عظَّم من شأن الأفكار وقيمتها، والمفكر محمد باقر الصدر في العراق، الذي اتخذ من الفلسفة والمنطق والاقتصاد أساسًا ومرتكزًا.
ربط الكاتب بين الإسلام والإصلاح الثقافي في هذا الفصل، حينما استعرض مجموعة من المحاذير التي أشارت إليها الرؤية الإسلامية، من خلال الكتاب والسُّنَّة النبوية المطهرة، وهذه المحاذير جعلها على رأس المنطلق، من أجل إصلاح ثقافي شامل وبنَّاء، وهي تواليًا: الكراهية والتعصُّب والتطرُّف والعنف والإلحاد.
تعتبر“ظاهرة الكراهية الدينية”من أشدِّ أنماط الكراهية حساسية وخطورة[2] ، إلَّا أن الأخطر من ذلك، هو النقص الحاد، والغياب الفادح للدراسات والتأليفات التي تناولت الموضوع في المجال العربي، رغم أن“هذا الجانب من طبيعة النفس البشرية، إلَّا أنه لم يُولَ ما يتناسب مع مكانته وخطره من عناية”[3] . ويعتبر الباحث السعودي الدكتور راشد المبارك من أوائل العرب في العصر الحديث اهتمامًا بهذا الموضوع، من خلال كتابه «فلسفة الكراهية»، وأما حساسية هذا النمط من الكراهية، فتكمن في اتِّصاله وتحديده بالمجال الديني.
وقد تحدَّث الكاتب عن ثلاثة أنماط من هذا النوع من الكراهية، وهي:“النمط الأول: الكراهية الدينية التي تنشأ بسبب الاختلاف بين الأديان، خصوصًا الأديان السماوية الثلاثة الكبرى. النمط الثاني: التي تنشأ بسبب الاختلاف بين المذاهب الدينية في إطار الدين الواحد. النمط الثالث: التي تنشأ بسبب الاختلاف بين الجماعات والفئات في إطار المذهب الديني الواحد”[4] .
أما النمط الأول فيكفي التذكير بما عرفه التاريخ من أحداث بين أتباع المسيح، وأتباع موسى ، حينما اتَّهم المسيحيون اليهود بصلب وقتل السيد المسيح. وأما الثاني فيكفي استحضار حرب الثلاثين عامًا، بين الكاثوليك والبروتستانت، فيما النمط الثالث، والأشد خطورة في الأوساط العربية والإسلامية، سواء تعلَّق الأمر بالجماعات التي تشترك في المرجعية الدينية، وتختلف في نظم العمل، أو تعلَّق الأمر ببعض الفئات الدينية وغير الدينية، بسبب الاختلافات الفكرية أو الاجتماعية، كما نجد بين بعض الإسلاميين وبعض العلمانيين.
وقد عرف العصر الحديث تناميًا ملحوظًا في النمط الأول، خصوصًا بعد التطوُّر المذهل في شبكات الإعلام وتقنيات الاتصال، التي فجَّرت معها ما عرف بثورة المعلومات، فقد تضاعف الوعي واشتدَّ الاهتمام بهذه الظاهرة في عصر العولمة، بعد الانبعاث الواسع والمخيف لنزعات القطيعة والتعصُّب والتطرُّف، التي لا تقبل التعايش مع الآخر،“وهذا ما برهنت عليه أحداث من قبيل حدث الحادي عشر من سبتمبر 2001م في أمريكا، فقوة هذا الحدث وضخامته والذي راح ضحيته ما يزيد على ثلاثة آلاف شخص، ولد معه ردَّة فعل قوية وشديدة من الكراهية تجاه المسلمين هناك”[5] . وقد تكرَّرت مثل هكذا أحداث في العديد من الأماكن، كما حدث في لندن عام 2005م. فتعدَّدت أنماط وصور التعامل مع هذه الظاهرة على الصعيد العالمي، قصد مكافحتها، على شكل هيئات ومنظمات، وجمعيات حقوقية.
يردُّ المؤلف على هذه الظاهرة نقدًا ومقتًا، بأنها“أشدُّ بلاءً من الأمراض التي تُصيب الإنسان في بدنه وجسمه؛ لأنها تُصيب الإنسان في نفسه وعقله وقلبه ووجدانه وشعوره، وتمتصُّ منه جمالية القيم، ومكارم الأخلاق، وتُطفئ فيه شعلة الضمير، وجذوة الروح، وقبس النور، وصفاء النفس، وتُجفِّف فيه منابع الفيض الإنساني الخلاق، وأنهار المشاعر الإنسانية السيالة في العالم الداخلي للإنسان. وهذا بخلاف الأمراض التي تُصيب بدن الإنسان وجسمه... والكراهية هي أشد بلاء من الزلازل والأعاصير والبراكين، التي تقتلع الأشجار، وتقطع الكهرباء، وتُخرِّب الشوارع والطرقات، وتُدمِّر المساكن والممتلكات، وتُزهق النفوس والأرواح، لكنها تُوحِّد المشاعر، وتُقرِّب القلوب، وتجلب عون الآخرين وعطفهم”[6] .
كيف لا والكراهية منبوذة عند الناس كافَّة، بل إن الحبيب ﷺ نهى عنها، فقد جاء عنه في الأثر «قَالَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ: َلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: فَإِنَّ شِرَارَكُمُ الَّذِي يَنْزِلُ وَحْدَهُ، وَيَجْلِدُ عَبْدَهُ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ، قَالَ: أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ، قَالُوا: بَلَى إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ وَيُبْغِضُونَهُ...» [7] .
أما «ظاهرة التعصُّب”، فإنها لا تقلُّ شأنًا ولا أهميةً من سابقتها؛ لكونها تحجب الإنسان عن إعمال فكره، وتُسلب منه قدرة التبصُّر في اختيار مواقف سليمة، وله صورتان:“صورة مع، وصورة ضد، فتارة يكون التعصُّب مع شيء ما، وتارة يكون ضد شيء ما، وهذا الشيء إما أن يكون فكرةً أو شخصًا، مبدأً أو جماعةً، معتقدًا أو عشيرةً”[8] . ولذلك فهو عبارة عن موقف سلوكي تجاه الآخر المختلف أو المغاير، إذ يُعتبر حاجة ضرورية لاستثارة نزعة التعصُّب، وإشعال حميته. ومنطق التعصُّب قائم على المبالغة والإفراط في مدح الذات وتمجيدها من جهة، ويرتكز على المبالغة والإفراط في ذِمِّ الآخر ومقته من جهة ثانية[9] .
ويعتبر الجنوب الإفريقي جون دكت من أكثر علماء النفس الاجتماعي اهتمامًا بهذه الظاهرة في كتابه «طبيعة التعصُّب»، حيث كانت جنوب إفريقيا من أشدِّ المجتمعات تفشِّيًا لهذه الظاهرة على أساس التعصُّب العرقي. وبغض النظر عن المواقف الفلسفية المتباينة حول هذه الظاهرة كما نجد عند المفكرين الفرنسيين بول ريكور[10] ، وجاك لوغوف[11] . علمًا أن التعصُّب الديني لم يحضَ بداية باهتمام علماء النفس والاجتماع، قبل أن تتحوَّل أنظارهم إليه بعد أن تبنَّت جماعة تنظيم القاعدة أحداث الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001م. ليأخذ بعد ذلك موضوع الدين والتعصُّب اهتمام جميع النُّخُب، فكرية كانت، أو سياسية أو حقوقية أو اجتماعية أو رياضية...
ويرى الكاتب أن التعصُّب لا يهتدي بصاحبه إلى سواء السبيل، ولا يُوصله إلى الحكمة ضالَّته، بل إنه يجلب لصاحبه“العداوة والبغضاء من الآخرين، ويُورث الاحتقان بين الناس والانقسام، ويتسبَّب في خلق النزاعات والخصومات التي تهدر الطاقات، وتُضيع الإمكانات بدون طائل، وبلا ثمرة وبلا نتيجة، وهذا ما يُنبِّه عليه ويُحذِّر منه العقلاء والحكماء من الناس”[12] .
إلى جانب ذلك شهدت ظاهرة“التطرُّف الديني”تمدُّدًا خطيرًا، واتِّساعًا متسارعًا، وانتشارًا واسعًا، كالنار في الهشيم، و«كأنه الوباء المعدي والمنتشر، ليس في المجتمعات العربية والإسلامية فحسب، فهو الوباء العابر بين المجتمعات القريبة والبعيدة، لم تسلم منه حتى تجمُّعات المسلمين في المجتمعات الأوروبية والأمريكية”[13] .
بل إن هذا الوباء اشتدَّت شوكته، فلا ينتهي أجله، ولا تنخر قواه، بل إنه ظل يتزايد ويتكاثر بشكل مخيف ورهيب، خصوصًا في المناطق العربية والإسلامية، إذ يعتبر التطرُّف الديني من أخطر أنماط التطرُّف، وقد“تعاظم هذا الخطر المنسوب إلى المجال الديني، وحصل نتيجة الاقتران بين التطرُّف والتكفير والإرهاب، ومتى ما اجتمعت هذه الحالات الثلاث وامتزجت كوَّنت مركَّبا خطيرًا للغاية، هو أخطر مركَّب يمكن أن يظهر ويتشكَّل في المجال الديني على الإطلاق”[14] ، ما جعله يُهدِّد أمن وسلامة المجتمعات.“ولم يقف التطرُّف عند هذا الحد، فقد تعاظم ووصل إلى درجة التوحُّش والعدمية، التي تكاد تخرج الإنسان من إنسانيته، وتجعل منه كيانًا منزوع الرحمة، تتملَّكه رغبة الفناء، والإسراع إلى طلب العدم، عن طريق اختيار أسوء وأقبح فعل يمكن الإقدام عليه، وهو فعل تفجير النفس، وقتل الآخرين، وسفك الدماء المعصومة، وإزهاق الأرواح البريئة، مُتخيِّلًا بأن هذا السبيل هو أسرع طريق إلى النعيم، في حين أنه أسرع طريق إلى الجحيم”[15] .
وردًّا على ذلك رأى الأستاذ زكي الميلاد، إننا بحاجة إلى سؤال التنوير أمام موجة التطرُّف، ويُعزي ذلك إلى كوننا“أمام ظاهرة تُعطِّل العقل، وتسلب من الإنسان حسَّ التفكُّر، وتسدُّ عليه منافذ الحكمة، وتشلُّ قدرته على التبصُّر في عواقب الأمور...، وتفتح عليه في المقابل الشعور بالتذمُّر، والإحساس بالإحباط، والاندفاع نحو المغامرات غير المحسوبة، وجميع هذه الحالات تقع على الضد من فعل التنوير وحقيقته”[16] .
وإذا ما نجحنا في ذلك، وتغلَّبنا على هذه الآفة، جعلناها صفة قبح، منها ينفر عموم المجتمع، ولا سبيل إلى ذلك إلَّا من خلال التجديد الديني، بتصحيح الخلل الديني، وطريقة فهم الدين والتديُّن، وإعادة استنطاق النص الديني وقراءته، وتحسين صورتنا التي نُقدِّمها للعالم، بدءً بإعادة التفكير في الواقع والاعتناء به.
أما الاتجاه الذي ينبغي أن يتَّجه إليه الإصلاح، فيعتقد الكاتب أنه“يتحدَّد في جملة من المفاهيم الملتبسة التي أفرزت تلك النزعات المخيفة والمرعبة، وفي مقدمة هذه المفاهيم الغلو، والتكفير والجهاد والولاء والبراء، دار الإسلام ودار الحرب، الاحتساب، المخالف، الهجرة، إلى جانب مفاهيم أخرى”[17] .
وهذا يعني أننا أمام معركة فكرية، بحيث نعتقد أن“جذور مشكلة التطرُّف الديني في عمقها فكرية، ولما كانت كذلك؛ فليس أمام المسلمين من خيار للحد من ثقافة الموت والاحتراب والعنف... سوى العودة إلى الذات لمراجعتها ونقدها، والوقوف على مواطن الخلل فيها لتقويمها ومعالجتها. ثم بناء قيم أخلاقية ليست بغريبة عن الذات، قيم تستبعد الكراهية والحقد وتنفتح على قيم إنسانية ودينية”[18] ، ولهذا فنحن في أمسِّ الحاجة إلى الانخراط الجماعي، في مشروع إعادة التأسيس، والبداية لا بد أن تكون بإعادة تأصيل الجهاز المفاهيمي للأمة.
أما“ظاهرة العنف”، فقد كانت مرتبطة منذ القِدم بالاجتماع الإنساني في جميع أطواره، والذي يُميِّز المجتمعات عن غيرها هو صور التعبير عن هذا العنف،“وليس المقصود من هذا التصوير والإطلاق، إعطاء العنف صفة التحكُّم والبقاء، أو التبرير له بأيِّ صورة كانت، وإنما المقصود تجريد العنف من أيِّ صفة ثابتة تلتصق به أو تتلازم معه”، إذ لا دين له ولا مِلَّة ولا وطن.
ومنطلقات هذه الظاهرة من حيث الفهم والاستيعاب، فإنها تتَّصل بحسب المُؤلِّف، بثلاثة عناصر مركَّبة فيما بينها؛ الأول مُتَّصل بعالم الأفكار، والثاني مُتَّصل بالبيئة الاجتماعية، والثالث يتَّصل بالنشاط السلوكي للعنف. أما تقسيماته فيرى أنها متعدِّدة بحسب أنماطه، فتارة يقسّم بحسب صورته العامَّة، وتارة بحسب مجاله، أو مشروعيته، وتارة بحسب الهويات الدينية والثقافية. وقد سلَّط المؤلف الضوء على العنف الجماعي وليس الفردي لتفسير هذه الظاهرة، في محاولة لفهمها وفكِّ طلاسمها، وذلك من خلال عوامل ثلاث أساسية، هي: العامل الاجتماعي والاقتصادي[19] ، والعامل الديني والأيديولوجي[20] ، والعامل السياسي والعسكري[21] ، وهي عوامل ضرورية لفهم وتفسير، والإحاطة بكل جوانب هذه الظاهرة المعقَّدة.
في مقابل هذا، ازداد القلق داخل المجتمعات مع مطلع القرن الحادي والعشرين، وبخاصة المجتمعات العربية والإسلامية، وذلك بعد تفشِّي ظاهرة الإلحاد، التي وصلت إلى الفئات العمرية الشابة، ويعزو الكاتب الأسباب إلى“التفاعلات الواسعة مع شبكات التواصل الاجتماعي، التي باتت تعجُّ بالفوضى بصورها كافَّة”[22] .
والشيء الذي يدعو للقلق هو المكاشفة في تبنِّيها من دون حذر ولا خوف، بخلاف ما كان في السابق، وامتدَّت حتى إلى داخل المجتمعات الموصوفة بالمحافظة، وأضحت مقولة «في بيتنا ملحد» شعارًا يُنذر بالخطر داخل هذه الأسر. ولهذا يُؤكِّد الكاتب على“ضرورة احتفاظ الأسرة بحسِّ اليقظة الفكرية، والتنبُّه لهذا السياج الفكري في حماية الأسرة وتحصينها من الاختراقات الإلحادية”[23] .
علمًا أن هذه الظاهرة قد تعرَّضت في بيئتها لانتكاسة قوية ونقد شديد، أضف إلى ذلك الانقلابات الجديدة عليها من قبل أشخاص إما كانوا على شفى حفرة من الإلحاد، أو منخرطين، أو منشقِّين، أو معارضين. وفي الأزمنة السابقة اعتبر المفكر الإنجليزي جون لوك في كتابه «رسالة في التسامح»، أنه“لا يجوز أبدًا التسامح مع من يُنكرون وجود الله”[24] ، كما نجد عند الفيلسوف الفرنسي فولتير الذي عاصر الفلاسفة الملحدين، وخاصم رجال الدين المسيحيين، مع ذلك تمسَّك بالدين، مُقدِّرًا أن الخرافة أهون عنده من الإلحاد، إذ يقول:“ذاك هو ضعف الكائن البشري، وذاك فساده، ومن الأفضل له دون شك، أن تستعبده كل الخرافات الممكنة، شريطة أَلَّا تكون قاتلة، فهي أحسن له من أن يعيش بدون دين”[25] .
استهلَّ الكاتب هذا الفصل بسؤال مهم عن المشاريع الإصلاحية وإلى أين وصلت؟ ويقصد طبعًا المشاريع الإصلاحية التي انطلقت مع ما سُمِّي بعصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر، بدءًا بتجربة التحديث مع محمد علي باشا «1849 - 1969م» في مصر، مرورًا بتجربة رفاعة الطهطاوي «1801 - 1873م»، وقوفًا مع حركة الإصلاح التي نهض بها جمال الدين الأفغاني «1838 - 1897م»، والتي بعث بها صحوة ويقظة، تأثَّر بها العالم العربي وما زال، عروجًا بطور محمد عبده «1849 - 1905م»، ودعوة الشيخ عبد الرحمن الكواكبي «1854 - 1902م» التي قارعت الاستبداد، وتوقُّفًا عند تجربة الشيخ النائيني محمد حسين «1860 - 1936م» في إيران.
وأمام هذه المشاريع وغيرها، سواء في العصر الحديث أو المعاصر التي لم تصل إلى غاياتها، يرى الكاتب أن الأفهام والعقول العربية انقسمت إلى العديد من القراءات المتباينة؛ منها من“ترى أن تاريخ العالم العربي يُمثِّل تاريخًا متراكمًا من الهزائم والفشل...، وأخرى ترى أن تاريخ العالم العربي يُمثِّل تاريخًا مُتَّصلًا من المؤامرات الخارجية والمُنظَّمة، مؤامرات الدول الكبرى المستعمِرة والمعادية...، أما القراءة الثالثة فترى أن تاريخ العالم العربي يُمثِّل تاريخًا متتابعًا من الفرص الضائعة التي لم نُحسن الاستفادة منها، والتعامل السليم معها”[26] .
والمتأمل في تاريخ العالم العربي يُدرك أن هذه القراءات لم تُجانب الصواب في شيء، إذ حاولت كل طائفة تصوير الحدث من زاوية رؤيتها له، وقد كان الكاتب فَطِنًا لهذه النقطة الحسَّاسة، إذ يعزو كل هذا الفشل إلى التخلُّف الحضاري للأمة، الذي فيه من الهزائم والفشل، وفيه من التآمر، وفيه من ضياع الفرص.
ومن أجل إصلاح ناجع، ولتفادي تكرار الهزائم السابقة، يقترح علينا المؤلف عدَّة مسائل توجيهية، بعد التعرُّف إلى الهدف لكسب الحكمة والرؤية الواضحة، وبعد تحديد الشروط والمتطلَّبات على المستوى العملي لكسب الإرادة والعزيمة، وفيما يلي المسائل التي يقترحها علينا الكاتب[27] :
1 - مراجعة جذرية وشاملة لأوضاعنا وأحوالنا، تُغلِّب مصالح الأمة على أيَّة مصلحة أخرى.
2 - أن يكون الإصلاح الذي نريد مُعبِّرًا عن إرادتنا وتصوُّراتنا وضروراتنا من دون أيَّة إملاءات من الخارج.
3 - ضرورة تحديد البداية، هل تكون من الإصلاح السياسي؟ أو من الإصلاح الديني؟
4 - مصالحة الدولة للأمة، وعودة الدولة للأمة.
5 - وضع برنامج منظم ومدروس بعناية فائقة، وتحويله من القوة إلى الفعل.
6 - البرهنة على أن الإسلام لا يتعارض مع الديموقراطية والتقدُّم.
وإذا كان سؤال أبي الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ قد جاء ليحلَّ محلَّ سؤال شكيب أرسلان: لماذا تأخَّر المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟ مع ذلك لم يستطع أن يحلَّ محلَّه؛ لأن سؤال أرسلان كما يقول المؤلف:“عبَّر عن جوهر إشكالية النهضة”[28] ، فإن سؤال الأستاذ زكي الميلاد جاء ناقدًا ومُكمِّلًا، حينما حدَّده بهذا الوسم: ماذا كسب المسلمون من تقدُّم العالم؟ والحق أن لكل سؤال راهنيته، وكل سؤال يُعبِّر عن حال الأمة في زمانه، وإن كانت دفوعات الميلاد قوية، حينما انتقد سؤال الندوي، الذي تسكنه الرغبة في قيادة المسلمين للعالم، في الوقت الذي لا يتحرَّك فيها التاريخ بالرغبات والأُمنيات، وإنما بالسُّنَن والنواميس التاريخية.
إن سؤال الميلاد سؤال ذو أهمية بمكان وزمان، وقد يُسهم بشكل كبير في إيقاف الانحدار المستمر الذي نحن عليه، وقد يُغيِّر هذه الأحوال البائسة، إذا ما أخذناه بجد ليكون منظورًا لرؤيتنا إلى العالم، فقد مرَّت علينا الثورة الصناعية في أوربا، ومرَّت علينا التجربة اليابانية بعظمتها، وها نحن نشهد صعود دولة الصين العظمى، وانفجار المعرفة وما تحمله من عولمة... مرَّت علينا كلها ولم نستطع الانخراط فيها، في الوقت الذي بمقدورنا“الانفتاح عليها، والتفاعل معها، والاقتراب منها، والاتصال بها، ليس بصورة مؤقَّتة، وإنما بصورة مستمرَّة، وليس بطريقة عفوية وعابرة، وإنما بطريقة مدروسة وممنهجة، وليس بذهنية تجزيئية ومُفكَّكة، وإنما بذهنية شاملة ومركَّبة”[29] .
ونحن بحاجة إلى مزيد من الفرص وتجارب التقدُّم في كل الميادين، ونحاول الوصول إليها ولو حبوًا. وقد حاول الكاتب تقديم نظريتين إصلاحيتين، لنموذجين رائدين في الساحة الفكرية العربية والإسلامية، واللتان حاولتا إقناع الأمة بضرورة الاستفادة من تقدُّم الآخر، وتحديدًا الانفتاح على المدنيَّة الأوربية، والاقتباس من مكاسبها ومنافعها، وهي تجربة رفاعة الطهطاوي[30] في مصر، وخير الدين التونسي[31] في تونس، والتي حاولت تبرير موقفها بأن الشرع الإسلامي، لا يُمانع من الاقتباس والانتفاع من غير المسلمين.
لقد ورثنا بعد الطهطاوي والتونسي ثنائية خطيرة جدًّا، هي ثنائية الأصالة والحداثة، حيث حاولت بعض الخطابات العربية المعاصرة مقاربة مصائر العالم العربي في إطار هذه الثنائية المفتعلة، والتي يراها الكاتب أنها مقاربة غير فعَّالة في تكوين المعرفة بطبيعة المأزق الخطير الذي وصلنا إليه، بحيث“يتجلَّى فيها ويتكثَّف الطابع الأيديولوجي الذي يحكمه منطق التعالي، والتظاهر بتملُّك الوعي، والميل إلى تكريس التفاضل، والرغبة في تصنيف الناس إلى حداثيين وأصوليين، بغض النظر عن صدقية هذا التصنيف الفعلية والواقعية”[32] ، فالأمر يستدعي منا قراءة حيادية موضوعية، بعيدة عن كل ما هو أيديولوجي، وأَلَّا تتَّصف بالأحادية والنهائية، أو بمنطق الغلبة والانتصار وتملُّك الحقيقة.
وقد ناقش الأستاذ الميلاد هذه المسألة من خلال مجموعة من الفرضيات، لعل أهمها:“كوننا في المجال العربي أمام أصولية لا تخلو من الحداثة، وأمام حداثة لا تخلو من أصولية”[33] ، وقد ساق لذلك مجموعة من الأمثلة، أهمها ادِّعاء فرح أنطون «1874 - 1922م»، بأن ليس أمام الأمة من خيار للتقدُّم والمدنيَّة إلَّا من خلال اتِّباع النموذج الأوربي حلوه ومرّه، على غرار ما قدَّمه أيضًا سلامة موسى «1888 - 1958م»، وبعده طه حسين «1889 - 1973م»، وهكذا ما ادَّعته مقولة نهاية التاريخ لفوكوياما، وما تبنَّته الماركسية، اللتين تشكَّلتا على قاعدة القوانين الصارمة، واليقينيات النهائية.
أما الفرضية الثانية ف“هناك من يرى أن انبعاث الأصولية جاء على خلفية فشل أو تعثُّر مشروع الحداثة في المجال العربي، الفشل أو التعثُّر الذي هيَّأ الأرضيات والسياقات التي ساعدت على انبعاث الأصولية، وظهورها بالمستوى اللافت من الصعود والتمدُّد”[34] . بحيث لم تستطع الحداثة تكوين نظام حكم صالح في المجال السياسي، ولا تنمية حقيقية متوازنة وفعَّالة في الميدان الاقتصادي، ولا حراكًا يدفع بالمجتمع نحو التقدُّم والازدهار في المجال الاجتماعي، كما لم تستطع إطلاق نهضة ثقافية جادَّة في الميدان الثقافي، بل أحدثت تمزُّقًا في الهوية، وخللًا واضحًا في منظومة القيم.
وعلى عكس الفرضية الثانية جاءت الثالثة، ف «بقدر ما كانت الحداثة سببًا في تجدُّد انبعاث الأصولية، بقدر ما كانت الأصولية كذلك سببًا في تجدُّد انبعاث الحداثة التي تنبَّهت إلى ذاتها، واستعادت يقظتها متأخِّرة”[35] . وقد اختلفت الحداثة الأولى عن الثانية سيكولوجيًّا؛ إذ جاءت هذه المرَّة لمجابهة الأصولية الدينية التي أخافت الحداثة، وقد تميَّزت الحداثة الجديدة أيضًا بطابع التشنُّج والتوتُّر والانفعال[36] . إلى غير ذلك من النظريات[37] ، والتي ساقها الميلاد في هذا المؤلَّف، والتي بإمكانها أن تُجيب عن سؤال الخروج من الأفق الضيِّق لثنائية الأصالة والحداثة.
وإذا ما تجرَّد الفكر الإسلامي بشقّيه «دعاة الأصالة ودعاة المعاصرة»، من منطق الغلبة والانتصار، ومبدأ تملك الحقيقة الفكرية، فإننا ولا شك قد ندخل مرحلة النقد الفكري التي يصبوا إليها الكاتب، على غرار النقلة التي قام بها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط «1724 - 1804م» في كتابه «نقد العقل الخالص»، إذ استطاع تغيير وجه الفلسفة الأوروبية، بعد أن كانت الدهشة وجهها في العصر اليوناني، والشك وجهها مع رينيه ديكارت «1596 - 1650م»، قبل مائة عام من نقلة كانط.
ولأجل هذا الدخول النقدي، يقترح المؤلف تفكيك البنى المفاهيمية لنزعات التعصُّب والتطرُف والتكفير، التي تفشَّت وتنامت داخل الوطن العربي والإسلامي بشكل خطير جدًّا، وتقويض مرتكزاتها الذهنية،“ولن تنجح هذه المهمة إلَّا إذا أطلقنا طاقة العقل، وأصبحنا من الذين لهم قلوب يعقلون بها، ولهم آذان يسمعون بها... فالعقل هو القوة الطاردة لتلك النزعات... في حين تعمل هذه النزعات المظلمة على إقفال العقل، وتجميد الفكر”[38] .
والكاتب يدرك جيدًا أن المهمة ليست سهلة يسيرة، بل تحتاج إلى عصر بأكمله، إن لم يكن أجيالًا، بالإضافة إلى ضرورة الرجوع إلى القرآن الكريم، الداعي إلى إعمال العقل في كثير من آياته: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[39] ، ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[40] ، ﴿وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[41] ، ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾[42] ، ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[43] . فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يستعمل في كتابه تسمية العقل بصيغته الفعلية.
كما نحتاج أيضًا إلى إحياء خبرة الماضين، من أجل توليد فكر نقدي من داخلنا، فقد سجل تاريخ الفكر الإسلامي تجربة فكرية نقدية جرت بين الغزالي وابن رشد، وبين الطوسي والشهرستاني، وبينه مع الفخر الرازي. بالإضافة إلى ما دشَّنه نسق من النقد الأكاديمي، ظهر في كتابات اعتنت بحقل الإسلاميات التاريخية والفكرية، والتي تناولت دراسة وتحليل قضايا وظواهر الفكر الإسلامي «الوسيط والمعاصر»، وقد برزت مع جملة من الأسماء، نذكر منها؛ كتابات الجزائري محمد أركون، والتونسي هشام جعيط، والمغربي محمد عابد الجابري، والأردني فهمي جدعان، واللبناني رضوان السيد. وعلينا التواصل النقدي معها، خصوصًا إذا ما أدركنا ما تُعانيه الدراسات الإسلامية من جمود وانغلاق.
وضمن هذا السياق، فقد عرف العالم العربي الإسلامي عبر تاريخه، مشاريع إصلاح الفكر والواقع، وقد تعدَّدت منطلقاتها، وتباينت أبعادها، والسؤال الذي يجب الوقوف عنده مُطوَّلا هو: كيف تعاملت هذه المشاريع الإصلاحية المتعدِّدة مع التاريخ، وهل استحضرت مختلف هذه التجارب سؤال فقه التاريخ؟ وهل استوعب المفكرون المصلحون نظرة القرآن الكريم إلى التاريخ وتعاملوا معها وعلى أساسها أثناء صياغتهم لمشاريعهم الإصلاحية؟ أم إن فقههم التاريخي بقي مُتخلِّفا لا يتساوى إطلاقًا مع التكثيف القرآني لقصص الأمم البائدة، ولا ينسجم مع هذه المساحة التي أعطاها القرآن إلى التاريخ؟
وتحت عنوان:“متى نصل إلى مجتمع المعرفة؟ ”تحدَّث الكاتب عن أهمية تكوين مجتمع معرفي[44] ، قادر على تقليص الفجوة التي تفصلنا عن مستويات التقدُّم في العالم، خصوصًا إذا علمنا أن نسبة الأمية في العالم العربي تُقدَّر بخمسة وستين مليون أمي، تُشكِّل النساء ثلثي هذا العدد، زد على ذلك نسبة 1,1% من الإجمالي العالمي مما تُنتجه بلداننا العربية من كتب ومُؤلَّفات، وغيرها من أرقام وحقائق مُفزعة، ومع ذلك“فإن ما يدعونا للحديث عن هذا المفهوم“مجتمع المعرفة”، هو ضرورة أن نتعامل معه بالتفكير النقدي من جهة، ومنهج الاستشراف المستقبلي من جهة ثانية، وبمنطق التواصل مع العصر والانخراط في العالم من جهة ثالثة”[45] . وذلك بعد الذي شهده العالم من ثورة في المجال المعرفي، وبعد أن أصبحت“المعرفة من القوى المُؤثِّرة في تشكيل أنماط حياة المجتمعات الإنسانية، وفي صياغة أنظمتها السلوكية، وهندسة أشكال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية، وفي تجديد نظرة هذه المجتمعات إلى المستقبل”[46] ، وجدير بالإشارة إلى أن مفهوم المجتمع المعرفي في جوهره وثيق الصلة بالمنظومة الإسلامية ورؤيتها إلى العلم والمعرفة، كيف لا وأول ما نزل على النبي محمد ﷺ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[47] .
ومع ثورة المعلومات والانفجار المعرفي الذي عرفته معظم دول العالم، لاح في الأفق تجدُّد وتغيُّر رؤية المسلمين لأنفسهم وحاضرهم ومستقبلهم، وسط المجتمعات غير المُسلمة، إذ خلَّف انبعاث تيار العولمة تنبيهًا لهم إلى ضرورة الوعي بذواتهم،“وطرح عليهم سؤال الهوية، وعلاقتهم بالآخر، فكان باعثًا لهم لحالة من الوعي واليقظة، ودافعًا للبحث عن أفق جديد، لعلَّه يسهم في تطوير وتحسين وضعية هؤلاء المسلمين في مجتمعاتهم غير المسلمة”[48] ، والذي حدث في منطقة الشيشان، وبلاد القوقاز شاهدًا على هذه الحقيقة، فجدلية الهوية والانتماء كافية لتُعيد صياغة العلاقة الجدلية بين المسلمين في المجتمعات غير المسلمة، وبينهم وبين العالم الإسلامي، لتجعلها علاقة متوازنة من الجهتين.
وما يدعو إلى القلق هو واقع هؤلاء المسلمين في بلاد الغربة، فحاضرهم ومستقبلهم يتأثَّر بصورة واضحة وبالغة بواقع العالم الإسلامي ضعفًا وقوةً، يقول علي عزَّت بيجوفيتش في هذا الإطار:“إن وضع الأقليات المسلمة في البلاد غير الإسلامية يتوقَّف دائمًا على قُوَّة المجتمع الإسلامي وهيبته في العالم”[49] .
وإذا عكسنا المعادلة وجدناها صحيحة أيضًا، فكلما تحسَّنت أوضاع وأحوال المسلمين في البلاد غير المسلمة، وتقدَّموا في المجالات الحيوية، فإن هذا التقدُّم يزيد في رصيد العالم الإسلامي قوة وهيبة أمام الآخر. زد على ذلك أنه“كلما تحسَّنت أوضاع الأقليات غير المسلمة في المجتمعات الإسلامية، شجَّعت على إمكانية تحسين أحوال الأقليات المسلمة في تلك المجتمعات”[50] .
وهذه المعادلة تدفع الجانبين إلى فكرة التقدُّم، والحاجة إلى التمدُّن لتغيير الأوضاع البائسة، وتجاوز أزماتنا الحضارية، والتي قال عنها مالك بن نبي:“إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته”[51] ، ومن ثَمَّ فهي في أنفسنا، وليس عند غيرنا، ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا، قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾[52] ، ويصدق علينا قوله تعالى أيضًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[53] .
في هذا الفصل الذي يُعدُّ ثمرة هذا الكتاب، حاول الكاتب الخروج بنتائج مُرضية، تخدم مصلحة العالم العربي والإسلامي، والهدف وضع استراتيجية شاملة متوازنة لإصلاح ثقافي شامل، منطلقًا من مجموعة آفاق يرنوا الوصول إليها، وذلك من خلال فكِّ اشتباكات بعض المفاهيم وتعقيداتها، جاعلًا مسألة“التنوير الديني”أولى هذه المفاهيم،“التنوير الذي يفترض منه أن يعيد الاعتدال إلى المجتمعات العربية والإسلامية، ويُرسِّخ نهج الوسطية، ويُعزِّز العقلانية الإسلامية، ويدفع نحو الاهتمام بقضايا العمران الإنساني والتنمية والتقدُّم، ويعمق مكانة الدين والقيم والأخلاق في هذا العصر، ويُؤكِّد التواصل مع العالم على قاعدة تعارف الحضارات”[54] .
وذلك في ظل ما واجهه مفهوم التنوير من تعقيدات واشتباكات في الساحة العربية والإسلامية، بعدما حاول الخطاب العربي أن يربط التنوير بالفكر الأوربي خطابًا ومرجعًا، بقصد اللحاق به، ما أدَّى إلى قطع صلته بالدين كما فعلت أوروبا تمامًا. ومن جهة أخرى فإن الخطاب الديني لم يظهر أيَّ اهتمام يذكر بمسألة التنوير الديني، بل إنه لم يحاول حتى تقديم محاولة في بناء التلازم بين الدين والتنوير.
وقد أصل الكاتب لمسألة التنوير في القرآن الكريم، واستعرض مجموعة من الآيات القرآنية الدالَّة عليها، والتي تُوضِّح من خلال معانيها أن“كل ما جاء من عند الله تعالى فهو نور، ومنبع للتنوير، وعلينا أن نتعرَّف إلى نور الله في السماوات، ونور الله في الأرض، بالتفكر والتأمل والتعقُّل، لنكتسب المعرفة بعالم التشريع من جهة، وبعالم المحسوس من جهة ثانية، وبعالم المعقول من جهة ثالثة، وهذا هو منبع التنوير الديني”[55] .
ولأجل ذلك وجب تحرير العقل العربي من الأصفاد والأغلال التي كبَّلته ولا تزال، وتحرير النفوس ممَّا حذَّر منه الله تعالى في كتابه: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ آتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ آللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ، أَوَلَوْ كَانَ آبَآؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾[56] . وكلها آفاق يفتحها الكاتب في وجه المفكر العربي، من أجل إطلاق أولى الشرارات لتنوير شامل وواسع من داخله، تنوير يجابه ويحاصر الآفات والظواهر المقلقة، كالعنف والتعصب والتكفير والتطرف الديني... ويكون ردًّا ناجعًا، وعلاجًا شافيًا للأمة من هذه الظواهر، ومن الذهنية التي تولّده، وتُسهم في تهذيب كل الأيديولوجيات العمياء، وإعادتها إلى جادَّة الصواب، أو تُسهم في اقتلاعها واجتثاثها من جذورها.
وأولى الخطوات هي أن العالم الإسلامي بحاجة إلى أن يتضامن مع ذاته في مجابهة هذه الأيديولوجيات“ولن تتغيَّر هذه الصورة في رؤية العالم الإسلامي إلى ذاته، أو في رؤية المجتمع الإنساني له، ما لم نتقدَّم ونبعث حركة تنوير في داخلنا تقلّب هذه الوضعيات، وتغيّر هذه الصورة المشوهة التي نحن عليها”[57] .
وفي حديثه عن مفهوم“الوسطية”اعتبر الميلاد أنه أحد المفاهيم الجذَّابة والساحرة في العصر الحديث والمعاصر، والذي يتسابق الجميع لتملكه والانتساب إليه، كأننا لأول مرة نكتشفه ونتعرَّف إليه، وتجلَّى ذلك في ظهور العديد من المراكز البحثية، والمنتديات واللقاءات العلمية،“وهذا المستوى من الاهتمام الكمي والكيفي يصلح لأن يُؤرِّخ لتطوُّر جديد في علاقة الفكر الإسلامي المعاصر بمفهوم الوسطية، الأمر الذي يستدعي التأمل والنظر، لتفسير وتحليل طبيعة هذا التطوُّر اللافت للانتباه، والكشف عن بواعثه وأرضياته”[58] .
ويرى الكاتب أن التحوُّل في مفهوم الوسطية حدث جرَّاء التطوُّر الخطير الذي حدث في المجتمعات العربية والإسلامية، المُتمثِّل في انبعاث نزعات التكفير الديني والتعصُّب والتطرُّف،“وقد تحدَّد في تحوُّل النظر إليه من نطاق الآخر الذي كان عليه في السابق إلى نطاق الذات، وهذا التحوُّل هو الذي كشف عن قيمة مفهوم الوسطية وأهميته وفاعليته، وأعطى حافزًا قويًّا على تجديد النظر إليه، والتمسُّك به”[59] .
وبتأثير هذه الحالة وُضع مفهوم الوسطية في مطلع الألفية الثالثة في دائرة الفحص والتنقيح، سعيًا إلى ضبطه وإحكامه، وقد عدَّه محمد عمارة“من المصطلحات التي عدت عليها العاديات، وجارت عليها النائبات، فأخرجتها من معناها الأصلي الأصيل”[60] ، أو الذي قال عنه الكاتب المصري فهمي هويدي، حين اعتبر“أن البعض وظَّفوا الوسطية تبعًا لأهوائهم، حتى ذهب نفر منهم إلى أنها نقطة وسط بين الخير والشر”[61] ، أما الشيخ يوسف القرضاوي فقد توسَّع في المفهوم في العديد من مؤلفاته، وأعطاه معانيَ مُتعدِّدة، منها: معنى العدل والاستقامة والخيرية[62] ، واعتبر مفهوم الوسطية ومسلك الوحدة في الأمة مقترنين بعضهما ببعض، ولهذا يرى أن“التوسُّط والاعتدال، هو طريق الوحدة ومركزها ومنبعها”[63] ، مؤكِّدًا على أن المذاهب والأفكار المتطرِّفة هي التي تُثير الفرقة والخلاف بين أبناء الأمة الواحدة.
وعن معنى“السِّلْم”، أثار هذا المفهوم دهشة الكاتب وتعجبه؛ دهشته من حيث إن الإسلام أعطى لفكرة السِّلْم والسلام منزلة رفيعة وعظيمة. وتعجبه من خلال تراجع هذه الفكرة وغيابها أحيانًا أخرى في المجتمعات الإسلامية، معتبرًا أن“السِّلْم والسلام يُمثِّل قيمة في منظومة القيم الإسلامية، حالها حال القيم الأخرى التي لها أهميتها ومنزلتها، لكن من دون أن تتَّسم هذه القيمة وتتميَّز عندنا بإثارة الدهشة والتعجُّب”[64] .
ويتأكَّد هذا الأمر خصوصًا إذا تبصُّرنا وتأمَّلنا أن السلام هو ما نختم به صلواتنا الخمس اليومية، قبل أن ننصرف إلى شؤوننا الدنيوية، فلا بد إذن أن يكون ما نختم به الصلاة، وما نبتدئ به، ذا أهمية بالغة في حياة الفرد والمجتمع. ثم أليس السلام هو عنوان تحية المسلمين كافَّة؟ وماذا يعني أن يكون اسم الإسلام كدين مأخوذًا من مادة السِّلْم؟“ألا يفهم من هذا الأمر أن فكرة السلام هي أقرب صفة إلى الإسلام، وأن الإسلام بهذا القرب وبهذا التلازم هو دين سلام، وجاء لنشر السِّلْم والسلام بين الناس كافَّة مسلمين وغير مسلمين! فلماذا تغيَّر الحال؟ وإذا بمجتمعات المسلمين تتحوَّل إلى مجتمعات تسودها الفوضى والحروب والنزاعات، وتُصبح مُعرَّضة لمخاطر التمزيق والتفتيت والتقسيم! ولماذا تخلَّى الإنسان المسلم عن صفة السِّلْم والسلام، وأصبح هناك من يدعو إلى القتل والتكفير والتخريب؟ ”[65] . ولماذا لا تشتدُّ نزعات السِّلْم والسلام؟ ولماذا لا يزدهر السِّلْم في المجال العربي؟
على تعدُّد هذه الأسئلة، تتنوَّع التفسيرات أمام هذا الوضع، فمنهم من فسَّر الوضع بأن له علاقة بالعلم تقدُّمًا وتراجعًا، ومنهم من يعتقد أن هذه القضية لها علاقة بطبيعة تأثيرات وسياقات التاريخ السياسي الحديث لهذه المنطقة المعروفة بممراتها الاستراتيجية والحيوية، إلى جانب من يرى أن هذه القضية لها علاقة بطبيعة الموروثات الدينية والتاريخية والأدبية والاجتماعية في المجال العربي والإسلامي، وهناك من يُفسِّرها بكون المنطقة تقع على خط يمكن وصفه بخط العنف، قياسًا على ما هو معروف جيولوجيًّا بخط الزلازل،“الأمر الذي يلفت النظر إلى طبيعة هذه البيئة، بنية ومكونات وتراثًا وتاريخًا، وضرورة إخضاعها لعملية التشريح البنيوي الجذري والشامل، بتطبيق أدوات وخبرات ومنهجيات العلوم الاجتماعية والإنسانية كافَّة، على أمل إحداث تغيير في بنية هذه البيئة، وتحويلها من بيئة لها قابلية توليد العنف وإنتاجه، إلى بيئة لها قابلية توليد السِّلْم وإنتاجه”[66] .
أما بخصوص عدم انتعاش فكرة السِّلْم وازدهاره في المجال العربي، فإن الكاتب يربط السبب بثلاث صور؛ الأولى تتَّصل بعالم الأفكار، حيث ما زالت فكرة السِّلْم متوارية عن الأنظار، وموضع محاجَّة عند البعض، وموضع حذر وخشية عند البعض الآخر. والثانية تتَّصل بعالم المؤسسات، فالمجتمع أصبح بحاجة إلى مؤسسات تُعنى بشؤون السِّلْم، لإعادة ترميم النسيج المجتمعي المتمزِّق. أما الثالثة فتتَّصل بعالم الأشخاص، وهم الذين يعرفون بهذه القضية، ويدافعون عنها، كما عرفه تاريخ الهند مع غاندي «1869 - 1948م»، أو كما عرفته أمريكا مع مارتن لوثر كينج «1929 - 1968م»، ولماذا لم تظهر نسخة من نيلسون مانديلا «1918 - 2013م»، الذي قاد بلاده لبر الأمان، وكسب ودَّ واحترام العالم؟ ومتى نسمع نداء المولى عز وجل حينما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾[67] ، نداء“تحتمه وتقتضيه الخصائص الذاتية، والسمات الكلية التي تتَّصف بها الأمة الإسلامية، والتي تحصل في كونها أمة الخروج والشهادة والوسطية والعالمية”[68] . ولذلك جاءت النصوص القرآنية متضمِّنة لمجموعة من المبادئ والمُحدِّدات المنهاجية التي يقوم في الإسلام، لتنظيم علاقاتنا مع الغير.
أما“التسامح”، فقد تعدَّدت في نظر الكاتب معانيه، وذلك بحسب الحقول الدلالية والمعرفية التي ينتمي إليها، والذي يفهم منها، هو أن التسامح“هو امتزاج بين الفكر والأخلاق، وتعبير عن موقف فكري من جهة، وموقف أخلاقي من جهة أخرى، موقف فكري يُحدِّد طريقة التعامل مع المفاهيم والأفكار المغايرة على مستوى النظر، وموقف أخلاقي يُحدِّد طريقة التعامل مع المفاهيم والأفكار المغايرة على مستوى العمل”[69] .
أما الشيء الذي يدعو للقلق في هذا الموضوع، هو الغياب العملي لمفهوم التسامح بين المسلمين أنفسهم، أفرادًا وجماعات ومذاهب، كأنه ليست له قُوَّة المعنى في حياتهم الفكرية والدينية، خصوصًا عندما تشتدُّ الخلافات والنزاعات بين المسلمين، وترتفع في حاضرهم خطابات التكفير، ونزعات التعصُّب، ودعوات العنف...“وكأن منابع التسامح قد جفَّت في الإسلام واندثرت، أو أن هذه المنابع ليس لها أساس في الإسلام، وكأن الأصل في الإسلام هو التعصُّب والتطرُّف والتكفير”[70] .
أَوَلَيس التاريخ يُعدُّ شاهدًا على أن التسامح ينبعث في الأمم التي تبتلي بالصدامات الدينية، والنزاعات المذهبية؟ فلماذا لم ينبعث قويًّا فينا، وتاريخنا شاهد على مثل هكذا صراعات؟
يرى المؤلف أن اقتران مفهومي التسامح والتنوير مدخل من مداخل الإجابة عن السؤالين السالفين الذكر،“فمتى ما وجد التنوير وجد التسامح، ومتى ما غاب التنوير غاب التسامح، وكلما انتشر التنوير انتشر التسامح، وكلما تراجع التنوير تراجع التسامح؛ لأن التنوير هو نقيض التعصُّب، ليس هذا فحسب، وإنما لأن التنوير لا يُتيح مجالًا للتعصُّب، ويجعل من التعصُّب علامة وسلوكًا منبوذًا ومكروهًا، يُمقت صاحبه”[71] .
أضف إلى ذلك كون التنوير لا يرى في الاختلاف مَذمَّة، ويجعل من التعدُّد فضيلة، ومن التنوُّع مكسبًا، كما أنه يرفع عن الناس رهبة التعبير عن الرأي، والخوف من قول الحق، وكتمان العلم، وفيه تعظيم لمنزلة العقل ومكانته، وتحريض على إعماله، والوصول إلى عقول الآخرين وأفهامهم، ولذلك فإن الحاجة مُلحَّة لأن يكون التسامح حاضرًا ومتجلِّيًا في اجتماعاتنا وثقافتنا،“ونجد تجلِّيات كل هذا في تشريعات الإسلام، التي تقتضي أن يتعايش الناس في أمن وسلام، على أساس التسامح والكرامة الإنسانية، والمساواة البشرية، والحرية والعدل والرحمة عبر الأزمان والأجيال”[72] .
وتراثنا كان وما زال يرشدنا إلى تعاليمه وأخلاقياته وقيمه في التسامح والعفو والصفح، والحاجة مُلحَّة إليه لأن الخطأ يصدر من الجميع، «كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائِينَ التوابون» [73] ، ولأن الاختلاف من طبيعة البشر، ومن مقتضيات العقل، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾[74] ، ولأنه يُكبت نوازع الشر في النفوس، ويظهر نوازع الخير، ﴿فطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾[75] ، ولأن من طبيعة البشر الضعف، ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾[76] ، ولأن الإنسانية بكل أطيافها ولغاتها وثقافاتها وقومياتها ومجتمعاتها تشترك في ضرورة تأصيل مفهوم التسامح وتعميمه بين الناس[77] .
وعن مفهوم“الآخر”، أحد المفاهيم الأكثر حضورًا في التداول الثقافي، والأكثر اتِّصالًا بالعديد من المجالات والميادين والحقول المعرفية، فإن الميلاد أولى له أهمية كبرى، إذ يرى أنه في ظل“الانطباعات التي تُصوِّر أن العالم بات شديد التداخل والترابط بين أجزائه المتباعدة، وتحوّله إلى ما يشبه القرية العالمية المتصاغرة مع مرور الوقت، تغيّرت بصورة جذرية منظورات الرؤية لمفهوم الآخر، فلم يعد الآخر خارج الأسوار المحصنة... فقد بات الاحتكاك بهذا الآخر يحدث في كل لحظة، وفي كل مكان، وبكثير من الوسائط المباشرة وغير المباشرة، السمعية والبصرية، الشفهية والمكتوبة، وبلغات مختلفة”[78] . فأصبح الذي نصطلح عليه بالآخر حاضرًا معنا، فاعلًا ومؤثرًا في حياتنا وبيئتنا، ولذلك توقَّف الكاتب مليًّا عند هذا المفهوم لمعرفة حده وحدوده، وتحديد علائقه وتداخلاته.
حاول الكاتب بداية التمييز بين جانبين معرفيين مهمين مُتعلِّقين بالمفهوم؛ الأول هو الجانب الأخلاقي والإنساني، والثاني هو الجانب الفكري والثقافي، ففي الأول لا ينبغي إطلاق مفهوم الآخر عليه؛“لأن الطبيعة الإنسانية هي واحدة وثابتة من حيث الجوهر والخلق والتكوين، ولا تختلف بين جميع البشر أو تتمايز، منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض، ومهما اختلفت ألسنة الناس ولغاتهم، ألوانهم وأعراقهم، مدنياتهم وثقافتهم”[79] .
أما في الجانب الثاني ففيه يتحدَّد المفهوم ويتأطر،“بما يعني أن مفهوم الآخر إنما يشير بصورة أساسية إلى تلك الاختلافات الفكرية والثقافية التي تحدث بين الأفراد أو المجموعات البشرية”[80] .
وعلينا أن نتعامل مع هذا المفهوم منطلقين من اعتبارين متكاملين؛ هو أننا جميعًا في آن نُمثِّل الآخر من جهة، ونُمثِّل الذات من جهة أخرى، حتى لا نجعل من الذات مفهومًا متعاليًا أو فوقيًّا، قال تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ﴾[81] ، وهو نفسه سبحانه وتعالى دعانا إلى التعارف على مستوى الناس كافة، شعوبًا وقبائل في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[82] .
وقد تنبَّه إلى هذا المفهوم المفكر الفرنسي بول ريكور «1913 - 2005م»، في كتابه: «الذات نفسها كآخر» [83] ، فمعرفة الآخر جزء من معرفة الذات، ومعرفة الذات لا تكتمل إلَّا بمعرفة الآخر. ويتحقَّق ذلك من خلال“مراجعات جذرية وعميقة وجادة، تُعيد لنا فهم الآخر والتعرُّف إليه، وإعادة اكتشافه بصور مختلفة، تُطيح بتلك الصورة النمطية المتوارثة والملتبسة... وفي مجالنا هناك تراث متراكم في الخطاب الثقافي والديني والتاريخي، لا يرى في الآخر إلَّا كافرًا مشركًا، ضالًّا أو مبتدعًا، عدوًّا أو متآمرًا، ومن ثَمَّ لا ينبغي التعامل معه إلَّا بمنطق الخصومة والقطيعة والصدام، وتطبيق قاعدة عقوبة هجر المبتدع”[84] .
وما وصل إليه العالم“من احتقان واضطراب يرجع بالأساس إلى طبيعة العلاقات الدولية في زمننا المعاصر، القائمة على نبذ وإلغاء وإقصاء الآخر، والحكم عليه بالدونية والاحتقار، والعمل على سلب إرادته واستعباده.. كطرف أول، أو تكفيره وإعلان شرعية الجهاد بمقاتلته وإرهابه، وإباحة مختلف أشكال العنف والتطرُّف في مواجهته، وتحريم ربط أيَّة علاقة معه”[85] .
ولإنجاز مهمة التواصل والحوار مع الآخر، وتحويل العلاقة من صدام إلى تعارف يقترح المؤلف:“أولًا: إن الخطاب الذي يلغي الآخر، ليس باستطاعته بالتأكيد أن يبني وحدة وطنية... ثانيًا: علينا أن نعلم أن الآخر ليس شرًّا محضًا، ونحن لسنا خيرًا محضًا... ثالثًا: لا بد من مراجعة وتصحيح المفاهيم التي كرَّست في خطابنا الثقافي والديني القطيعة والصدام مع الآخر... رابعًا: من الضروري التأكيد على البعد الإنساني والأخلاقي في النظر إلى الآخر والعلاقة معه... خامسًا: التحوُّل والانتقال من حالة الأحادية التي اصابتنا في مجالنا الإسلامي إلى حالة التعددية”[86] .
وختم المؤلف هذا الفصل بالحديث عن مفهوم“القطيعة”، الذي ارتبط في المجال الأوروبي بالمفكر الفرنسي غاستون باشلار، ومفهوم“التواصل”، الذي ارتبط بدوره بالمفكر الألماني يورغن هابرماس الذي حول المفهوم إلى فلسفة، عُدَّت من أكثر الفلسفات شهرة في ساحة الفكر الأوربي المعاصر.
ويسعى الكاتب من وراء هذين المفهومين لتحويلهما إلى منطقين في التفكير، يقول:“تتحوَّل القطيعة إلى منطق، حينما تتحوَّل إلى ذهنية في النظر والتفكير والتفسير، وتصبح هي الأساس في بناء الأحكام، وتكوين التصورات، وتقدير المواقف، وبهذه الكيفية كذلك يتحوَّل التواصل إلى منطق”[87] . فإذا كانت“القطيعة تُولِّد نوعًا من الحساسيات والهواجس ومن المخاوف والشكوك، وغالبًا ما تُشكِّل معها دوافع الاختلاف والتباعد والانقسام، فإن هذه الوضعيات والأحكام والتصوُّرات قد تتغيَّر كُلِّيًّا أو بنسبة كبيرة، وتختلف صورتها تمامًا في حالات التواصل، حيث تتغلَّب حقائق، وتتقدَّم شرائط، وحتى أخلاقيات أخرى”[88] .
وقد ميَّز الكاتب بين مفهوم القطيعة المتداول بين الناس في خطاباتهم، وبين المفهوم المتداول في الكتابات والدراسات العلمية والفلسفية، كما يحصل مع مفاهيم كثيرة، بل إن المفهوم قد يتغيَّر ويتبدَّل من حقل معرفي إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى.
وفي منظور المفكر المغربي محمد عابد الجابري مُتحدِّثًا عن القطيعة المعرفية قائلًا:“إن تجديد العقل العربي يعني في المنظور الذي نتحدَّث فيه، إحداث قطيعة ايبستيمولوجية تامَّة مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط، وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر”[89] ، والمنظور الذي يتحدث فيه الجابري لا يعني القطيعة بمعناها اللغوي الدارج كما يقول، بل يعني به التخلِّي عن الفهم التراثي للتراث،“القطيعة التي تُحوِّلنا من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث”[90] .
أما التواصل فقد حوله هابرماس إلى فعل حضاري،“فقد أعاد هابرماس تخليق كلمة التواصل من جديد، وأصبحت هذه الكلمة بعده هي غير هذه الكلمة قبله، وتغيَّرت منزلتها وقيمتها... الشيء الذي يُؤكِّد الحاجة إلى نظرية الفعل التواصلي وطلبها، والانفتاح عليها، والتواصل معها، فهي من الخبرات التي نفتقدها حين نتحدث ونكتب، وحين نناقش ونتجادل”[91] .
لقد وُفِّق الكاتب إلى حدٍّ كبير في اختياراته الاستراتيجية المتوازنة لإصلاح ثقافي شامل داخل الأمة التي طال انحدارها، وقد تُغيِّر هذه الرؤية الأحوال البائسة التي نعيشها، إذا ما اتخذناها بجد منظارًا لرؤيتنا إلى أنفسنا من جهة، وإلى العالم من جهة ثانية، وذلك من باب الاهتمام بالمفهوم وغربلته وتنقيحه، والذي تفطَّن له الميلاد واعتبره أول المداخيل لإصلاح ثقافي منشود، فقد شكَّلت دائرة المفاهيم أهم ميادين الصراع الفكري والثقافي بين الثقافات عبر التاريخ وستظل كذلك، والدراسات اليوم أثبتت أن لتحديد هذا المفهوم أو ذاك أهمية كبرى، فمن جهة تُنير ما يصبو إليه الباحث من معرفة، فتُؤطِّر حدوده وتُوجِّه مقصوده، ولأهمية تحديد المفاهيم والمصطلحات في أيِّ موضوع ومجال من جهة ثانية، فوجود المصطلح داخل بنية التراث، من الضروريات المعرفية، والجسور التي لا بد منها لربط التواصل بين العقليات والتيارات من داخل المنظومة الواحدة، والتي تنتمي كذلك إلى منظومات متباينة، حتى يسهل التفاهم بين هذه التيارات، لمد جسور التلاحم والتلاقح والتفاعل الحضاري بين الديانات والثقافات المختلفة عبر أرجاء العالم.
كأني بالمؤلف يقول - من خلال المفاهيم التي استعرضها تواليًا في فصول هذا الكتاب -: ينبغي جعل علم الاجتماع مدخلًا لنظرية الإصلاح، فعلم الاجتماع لا بد منه في التنظير لعملية الإصلاح والتغيير، وذلك لأهميته، من حيث إنه يُركِّز على فهم القوانين، وفهم العلل والسُّنَن الحاكمة، في قضايانا الاجتماعية، فالبنية المهيمنة في قضايا التغيير والإصلاح، هي من صميم علم الاجتماع، وداخل علم الاجتماع يمكن أن يأتي علم النفس، وعلم الاقتصاد، والسياسة... وعلوم أخرى تُعين على الفهم، مما يُعطي قيمة وأهمية لعلم الاجتماع. وهذا ما بدأه ابن خلدون في دراسته لعلم التاريخ. فالتغيير في علم الاجتماع هو انتقال الإنسان من حالة اجتماعية معيَّنة، إلى حالة اجتماعية أكثر تطوُّرًا، ولكن شريطة تُوفِّر إرادة مجتمعية للتغيير. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هو: بأيَّة مرجعية يمكن دراسة علم الاجتماع؟ هل من المرجعية الغربية، علمًا أنها لوحدها لا تُسعفنا في ذلك؟ أم ينبغي التأصيل لعلم الاجتماع من الوحي؟
وعليه فإن التحديد العلمي والدقيق للمفاهيم كما قال الدكتور محمد الناصري في إحدى محاضراته؛ هو الذي يُوفِّر الأرضية لخلق مساحات للحوار والتواصل والتفاعل والتعايش بين مختلف البيئات الحضارية والفكرية المتعدِّدة؛ ذلك أن سوء فهم المصطلحات والمفاهيم المستخدمة من أطراف الحوار يُؤدِّي إلى كثير من الخصومات الفكرية والصراعات المذهبية، خصوصًا في زمننا المعاصر، حيث الصخب الإعلامي، والتشويه المُتعمَّد لكثير من المفاهيم. وعلى مثل هذه المفاهيم والمصطلحات كان تركيز الكاتب خلال فصول هذا الكتاب، خصوصًا تلك المفاهيم التي يتلقَّاها المثقف عمومًا في أحضان الجامعات والمعاهد والمدارس.
إن أزمة الأمة هي أزمة ثقافية وفكرية وجوهرها منهجي، وإن سبيل الأمة الإسلامية للخروج منها، واسترداد دورها الفاعل وإشعاعها الحضاري وإحداث التغيير المأمول، والإقلاع من جديد لا يتحقَّق إلَّا“بإحداث تغيير جذري في وجدان الأُمَّة، وتحقيق إصلاح بنيوي لأوضاعها، بحيث يتوجَّب على مفكري الأمة وعلمائها ومثقفيها تولية وجوههم شطر الإصلاح التربوي التعليمي؛ لأنه سبيل الإصلاح الوحيد الذي يمكن من إعادة بناء الأمة، بناء قويًّا ويُعيد شهودها الحضاري على بقية الأمم”[92] ، ف «نهوض الأمم وسقوطها وتقدُّمها وتراجعها منوط بمناهج التربية والتعليم فيها...، فلم تَعُدِ الأُمَّة قادرة على تكوين الإنسان الذي يقوم بمهام العمران لا في قابلياته، ولا في دوافعه، ولا في استعداداته”[93] .
وعليه فإن“نقطة الانطلاق في المعالجة والنهوض والإصلاح والتغيير للواقع، إنما تبدأ من محاضن التربية والتعليم بمفهومها الواسع، وتنتهي في التربية والتعليم، ومهما حاولنا وتوهّمنا أن النهوض والتغيير والإصلاح يمكن أن يتمَّ خارج مواقع التعليم، فإن التاريخ والواقع والتجربة الذاتية والعالمية تُؤكِّد أن التربية والتعليم هي السبيل الأوحد، إلى درجة يمكن أن نقول معها بدون أدنى تحفُّظ: إن التربية هي التنمية بكل أبعادها، وأيُّ مفهوم للتنمية بعيد عن هذا فهو مفهوم جزئي وعاجز عن تحقيق الهدف. لذلك فإن أيَّة تنمية لا يمكن أن تتمَّ خارج رحم التربية ومناخها، وإن المدارس والمعاهد العلمية والتربوية هي طريق القادة السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين والتربويين والإعلاميين والعسكريين وسائر المواقع الأخرى”[94] ، كيف لا وقد ابتدأ الوحي يتنزَّل على النبي ﷺ بأول آية نزلت عليه، وهي: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ كمدخل حضاري، ومفتاح ثقافي، ووسيلة تعليمية وتربوية.