التغافل سلوك العقلاء
حتى يمكن للمرء أن يتسامح مع نفسه ويتعايش مع الآخرين؛ لا بد له من أن لا يشغل باله بصغائر الأمور ودقائقها خاصة أن سكوته وتغافله لقول أو فعل لشخص ما في كثير من الأحيان سيكون سببا في إصلاحه، وهذا ما يمارسه ويصطلح عليه التربويون بمسمى ”الإطفاء“ الذي هو إيقاف تقديم المعزز الذي كان يحصل عليه الفرد في السابق لكي يتوقف عن أداء السلوك غير المرغوب، لكن إذا توقف الفرد عن أداء السلوك المرغوب يتم تقديم المعزز فورا، وهذا ما يلجأ له الكثير من التربويين في علاج تصرف سلوكي صدر من أحد الطلاب بقصد أو بدون قصد، فهم يرون أن السكوت والتغافل عنه هو أفضل من إثارته وتضخيمه لكون الأمر سينتهي لمجرد التغافل عنه، وهذا يعتبر من أهم أدوات ضبط الإدارة الصفية التي هي الإجراءات التي يتخذها المعلمون لإنشاء بيئة صفية مثالية لتحفيز التحصيل العلمي لدى الطلاب، بالإضافة إلى تنمية شخصياتهم في مختلف المجالات الاجتماعية والعاطفية والأخلاقية، ويستلزم على من يستخدم هذه المهارة تمتعه بالخبرة والمراس في تقديره لحدث وقع هنا أو هناك أو بعبارة أخرى هناك بعض الأمور لا يمكن التغافل عنها والتغاضي عنها لما سوف يتركه تجاهلها من آثار سلبية كبيرة سواء كان ذلك على المدى القريب أو البعيد.
قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63].
ومما ورد عن أمير المؤمنين أنه قال في شأن التغافل: ”وعظموا أقداركم بالتغافل عن الدني من الأمور ولا تبحثوا عما غاب عنكم وتكرموا بالتعامي عن الاستقصاء“.
ومما ورد أيضا عن الإمام زين العابدين - - في بعض وصاياه قوله: ”اعلم يا بني أن صلاح الدنيا بحذافيرها في كلمتين: إصلاح شأن المعايش ملء مكيال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل، لأن الإنسان لا يتغافل إلا عن شيء قد عرفه وفطن له“
فالتغافل هو إظهار الشخص غفلته عن سفاسف الأمور، وعن أي نقص أو عيب. وهو من فنون الحياة، ومهارة اجتماعية ذكية لا يتقنها الجميع، وفيها يتظاهر الفرد بعدم الانتباه لأخطاء وزلات الآخرين رغم علمه واطلاعه بهذا النقص بغرض عدم إرباكهم أو إحراجهم.
تبرز فوائد التغافل في منح الفرد الوقت الكافي للتفكير أكثر، ودراسة المشكلة من جميع حيثياتها، وسبر أغوارها، على حين يفقدك انشغالك بإيقاف السلوك السيئ تلك الفرصة، ويعزز من استمراره. كذلك يسهم التغافل في جعل جو الأسرة إيجابيا بعيدا عن المشاحنات سواء كان في إطار العلاقة الزوجية أو تربية الأبناء، كذلك يوفر فرصة ومساحة كبيرة ليركز فيها الشخص على الإيجابيات فقط دون غيرها والذي سيكون فيها إغلاقا لأبواب الشر وفتحا لأبواب الخير الكثيرة على الفرد. كذلك نيل الفرد الاحترام والحب والتقدير من الجميع، وقبل ذلك كله نيل رضا وحب الله؛ لأن التغافل صفة حسنة محمودة غير مذمومة تترك طمأنينة للنفس، وهدوءا للبال، والبعد عن الشقاء وبالتالي فرصة ثمينة للتراجع والمراجعة والإصلاح.
ومما لا شك فيه أن التغافل مطلوب وملح بين الأزواج؛ ومن المسلم به أيضا بأنه لا تخلو عائلة من مشاكل ومشاحنات، فينبغي التغافل فيها، وعدم التشدد والمراقبة والمحاسبة فيها لتسير الحياة بسلام وترسو سفينة العلاقة الزوجية إلى بر الأمان.
وكذلك ينبغي التغافل في تربية الأبناء؛ إذ أن التغاضي والتغافل عن زلات الأبناء وأخطائهم ضروري في بعض الأحيان، فلا ينبغي محاسبة الأبناء على كل أخطائهم وملاحقتهم؛ لأن ذلك يسبب الخوف وربما استمرارية الوقوع في الأخطاء وتكرارها
ويكون التغافل مطلوبا أيضا في العمل؛ حيث إن مجاهدة النفس والترفع عن الأخطاء من زملاء العمل شيء محبب وجميل، فينبغي تحقيق الهدوء والاستقرار النفسي في بيئة العمل وهذا يتحقق بالتغاضي والتغافل فقط.
وهناك فرق بين أن تتغافل أو تتجاهل؛ فالتغافل يعتبر رسالة سامية وود واحترام للآخر، أما التجاهل فهو رسالة احتقار وإهمال. كذلك التغافل هو التظاهر بعدم معرفة النقص أو العيب، بينما يكون التجاهل بإظهار عدم معرفته وهو يعلمه تماما. وأخيرا فإن التغافل يعتبر أداة ورسالة للشخص المقابل بأنه يهمك ويعني لك الكثير وإثبات أنك حريص لبقاء العلاقة والود معه، على عكس التجاهل الذي غالبا يكون مع شخص عابر لا يعني شيئا.