آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 1:07 ص

حوار الله سبحانه مع إبليس

عبد الله حسين اليوسف

- مع كتاب الحوار في القرآن نموذج ومبادئ
- للمؤلف زكي بن عبدالله الميلاد الطبعة الخامسة
- 1438 هجري

جزء من المقدمة

إن القرآن الكريم هو أول كتاب حوار في الإسلام، ومن ثم فهو أهم مرجع على الإطلاق في مسألة الحوار بين الناس، وفي تأصيل فكرة الحوار وتقعيدها في الإسلام والفكر الإسلامي. ومن هنا تأتي أهمية وقيمة البحث عن مسألة الحوار في القرآن، والكشف عن صور هذا الحوار ونماذجه وقواعده ومبادئه عبره ومواعظه، هديه وبصائره.

حوار الله سبحانه مع إبليس

من حوار الله سبحانه مع الملائكة عن الإنسان قبل خلقه ووجوده، انتقل الحوار إلى إبليس الشيطان الرجيم عن الإنسان أيضا، لكن بعد خلقه ووجوده، فالإنسان هو محور الحوار في هذين الموقفين الحواريين.

وكان من المدهش حقاً أن ينقل لنا القرآن هذا الحوار بين الله سبحانه وإبليس، وبهذه الكيفية التي شرحها الكتاب المجيد. ولا شك في المغزى العميق والبعيد والتنور بعبرته ومواعظه. لهذا الأمر، وهو بحاجة إلى مزيد من التأمل المستفيض والمستمر، للتبصر بحكمته، والتنور بعبرته ومواعظه.

وقد نقل لنا القرآن الكريم هذا الحوار في أربع سور مكية هي: الأعراف الآيات «11 -18»، الحجر الآيات «13» - «34»، الإسراء الآيات «16 - 56»، سورة ص الآيات «17 - 38».

ونموذج لهذا الحوار،

قال تعالى:

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف: آية 11].

﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «12» قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ «13» قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «14» قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ «15» قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ «16» ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ «17» قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ «18» [الأعراف: آية 12 -18]

من هذا الحوار يمكن أن نستخلص النتائج الآتية:

أولا:

لقد ضرب الله لنا مثلاً بليغاً للغاية، وفوق ما يتخيل الإنسان، حين تحاور مع إبليس الذي عصى أمره، وخرج من طاعته، واستكبر وتعالى، في دلالة صريحة على أن العصيان لا يمنع من الحوار، واستنطاق وجهة النظر المغايرة، والبوح بها،

ليس هذا فحسب، وإنما العصيان لا يمنع من الحوار حتى لو كان الطرف الآخر هو إبليس الشيطان الرجيم، الذي عليه اللعنة إلى يوم الدين.

ثانياً:

إذا كان الله الذي هو نور السماوات والأرض، وله ملكوت السماوات والأرض، ويسبح له من في السماوات والأرض، تحاور مع إبليس الذي هو رمز

الشر ومصدره في هذا الوجود، فهذا يعني أن الحوار ممكن إذا اقتضت الضرورة مع أي إنسان في هذا العالم مهما كانت صفته ووضعيته؛ لأنه ليس بين البشر من هو في منزلة إبليس الذي هو شر كله، في حين أن الناس كلهم عيال الله، فطرهم على فطرته، ولا تبديل لخلق الله، قال تعالى:

﴿فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: آية 30].

ثالثاً:

تؤصل هذه الآيات لمبدأ في غاية الأهمية، مبدأ أن الحوار هو الأصل في التعامل والسلوك، ومعنى ذلك أنه لا بد من الرجوع إلى مبدأ الحوار إذا اقتضى الأمر حتى مع أولئك الذين ينتهجون سبل الشيطان، ليكون الحوار حجة عليهم، فالله سبحانه تحاور مع إبليس، واتخذ من الحوار مبدأ قبل أن يطرده من رحمته، ويلعنه إلى يوم الدين.

وهذا يعني أن الحوار هو الأصل، ومن ثم لا بد من اعتماده والرجوع إليه حتى في مثل هذه الحالات.

رابعا:

يستفاد من هذه الآيات التأكيد على مبدأ قياس الأولوية في الحوار، فإذا كان الحوار ممكناً مع إبليس، فمن باب أولى أن يكون ممكناً ومتحققاً بين المسلم وأخيه المسلم، وبين الإنسان ونظيره الإنسان؛ لأنه لا يعقل أن يتحاور الله سبحانه مع إبليس، ولا يتحاور الإنسان مع الإنسان، أو ينقطع الحوار بين الإنسان والإنسان سواء كان أخاً له في الدين أو نظيراً له في الخلق، فهذا خلاف ما يعرف عند الأصوليين في أصول الفقه بقياس الأولى.

خامساً:

كشفت هذه الآيات عن منبع الخطيئة التي قادت إبليس إلى أن يخالف أمر الله سبحانه، ويخرج من طاعته وعبادته، حين امتنع عن السجود لآدم، وشرح لنا القرآن الكريم في آيات كثيرة أن منبع هذه الخطيئة هو التكبر،

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: آية 34].

وهذا يعني أن التكبر كان أول سبب في حصول أول خطيئة حين أبي إبليس واستكبر وكان من الكافرين.

من هنا يمكن القول: إن التكبر من أسوأ الحالات التي يُبتلى بها الإنسان؛ لأنها قد تخرجه من عبادة الله، ويدل على ذلك ما نجده في القرآن من الضادة بين التكبر والعبادة، قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: آية 60].

وقال تعالى:

﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا [النساء: آية 172]

وقال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: آية 206].

يقول الشاعر.:

إني بُلِيتُ بأربَعٍ ما سُلِّطوا
‏إلا لطُولِ شقاوتي وعنائي:

‏إبليسَُ والدنيا ونفسي والهوى
‏كيفَ الخَلاصُ وكلُّهُمْ أعدائي؟!»

”قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب“