“ثمانية”ورفع الضرائب
ديدن أي منتج إعلامي التشويق والسعي للسبق وللانتشار، وديدن المتلقي أن يبحث في ثنايا الرسائل والمواد الإعلامية عما يهمه وما له صلة به، وعندما يأتي الحديث عن التأثير على الدخل، فتجد أن العيون تجحظ والأسماع تتشنف. ولذا، حظي حديث وزير المالية مع ثمانية بانتشار واسع، ولستُ في معرض التعليق، فقد كان حديث معاليه واضحاً، وكانت الأسئلة ذكية وفي محلها تماماً. ولا أعرف ما الذي يأتي بالحديث عن استحداث ضريبة على الأفراد، إذ كان قد طرح عند مشاركة وزير المالية في دافوس بداية هذا العام «2024»، وأجاب عليه الوزير في حينهِ بلا النافية. وانتشرت تلك الإجابة عبر المنصات. لكن هل الاقتصاد السعودي مقبل على مزيد من الضرائب، سواء المباشرة أو غير المباشرة؟ كذلك إجابة وزير المالية تضمنت هذا الجانب بوضوح. الوضوح قضية ضرورية لتطمين الشرائح كافة، أفرد ومستثمرين محليين وأجانب على حدٍ سواء. لننتقل كيف تعالج الدول“الفجوة المالية”، وما الحل الناجع؛ هل يأتي من خلال المزيد من الضرائب والرسوم، أم من خلال“تكبيّر الكعكة”فتكون حصة كل من له علاقة - بما في ذلك الخزانة العامة - أكبر وأسمن؟
ما الذي يدفع الحكومات لفرض المزيد من الضرائب؟ إجمالاً، الفجوة المالية، أي العجز المتولد من أن الإيرادات تقصر عن تغطية المصروفات. وإن كانت الدولة - كما هو الحال في المملكة - تمتلك فسحة مالية «fiscal space» فتلجأ إلى تمويل العجز من خلال إصدار أدوات دين «صكوك و/أو سندات» لتسددها في آجالها المحددة. تهم قضية“الفجوة التمويلية”ليس فقط الحكومات بل كذلك الأفراد وللشركات والدول، وهي قضية لم تفارق الاقتصاد العالمي ولا دولهِ لحظة.
تعالج الدول هذا التحدي بطرقٍ متعددة، وفي أحيان لا تعالجه من خلال إطار مُحكم فتكبر بذلك الفجوة ليتولد عن ذلك نكبة تهدد الاستقرار الاقتصادي، كما نشاهد في بعض في امريكا الجنوبية وبعض دول الجوار، فالحلول التسكينية تفقد مفعولها سريعاً وتعود الأمور لما كانت عليه وربما بحدةٍ أكبر.
اجمالاً، حل“الفجوة المالية”الجذري ليس حلاً مالياً، إذ أن الحل المالي ليس مستداماً إن لم يكن مرتبطاً بحل اقتصادي يؤدي لاستدامة بل وتنامي مصادر إيرادات الخزانة، ولذا فالحل المستدام فلا مفر من أن يكون مرتبطٌ وتابعٌ ونابعٌ ومرتكزٌ على الحال الاقتصادية. أما فرض المزيد من الضرائب في حين ترنحالانشطة الاقتصادية فسيعني مزيداً من الضغط على عوامل العرض والطلب، وبالتالي تعميقاً للفجوة المالية ولاستطالة أمدها.
كيف نعالج الفجوة التمويلية معالجة مستدامة، والفجوة تعني قصور الايرادات عن تغطية المصروفات؟ ثمة طرق سهلة لا تتطلب كثير تنظير، بأن نرفع الايراد أو نخفض التكاليف أو كليهما. وهذه واضحة. أما الطرق غير السهلة فهي:
1. كيف نرفع الكفاءة الداخلية حتى تضيق الفجوة التمويلية، وهذا تحدي.
2. كيف ننمي الايرادات بأن ننوع مصادرها؟ وهنا الخيارات عديدة: أن نزيد النشاط الاقتصادي ونحفزه، وقد تتطلب زيادة النشاط تمويلاً. لكن - بداهةً - زيادة التمويل دون زيادة في النشاط ستكون عبئاً.
إذن - ومالكم بالطويلة - فالمعالجة الجذرية الاقتصادية تعني“تحسين الانتاجية”بدايةً ووسطاً وانتهاءً. بمعنى أن ردم الفجوة التمويلية يتطلب إبداعاً وتفكيراً وهندسةً، وليس في مجرد زيادة الأعباء إبداع. أما الابداع في هذا السياق فيعني اجتراح طرق نابعة من فهم دقيق للواقع الاقتصادي لرفع الكفاءة باستمرار ودون هوادة، وهذا هو ديدن التحضر البشري منذ بداياته، فالمجتمعات الأعلى انتاجية وبوتيرة متصاعدة هي التي سيطرت اقتصادياً وتحولت من اقتصادات صغيرة ضامرة إلى كبيرة وتمتلك زمام المبادرة، فتحقيق قفزات انتاجية هي كلمة السر المنفردة لتحقيق الرفاه والبحبوحة والتفوق والتصدر. لنأخذ أمثلة لمساندة هذا الزعم:
• في الزراعة واستخدام المحراث رفع الانتاجية وبالتالي ثراء من استخدمه.
• تدجين الحيوانات واستخدام قوتها انتاجياً.
• في الصناعة اختراع العجلة والمحاور.
• سباكة المعادن وتحويلها لأدوات كمعاول وفؤوس وسواها.
• اختراع الآلة البخارية والكهرباء وآلة الاحتراق الداخلي وخطوط التجميع.
• الاتمتة من خلال الكمبيوتر والروبت والنت وبالتالي الرقمنة الواسعة.
• الذكاء الاصطناعي، واثره الانتاجي هو الاتمتة العميقة من خلال التعاضد مع الانسان في تنفيذ مهام أو ان يحل بالكامل في تنفيذ بعض الأعمال وهذا يرفع الانتاجية لآفاق غير مسبوقة.
• الطاقة المتجددة والتقنية الحيوية.. وغيرها الكثير..
وعند النظر إلى الوضع في المملكة، فقد وضعت رؤية 2030 سياقاً ارتكز على السعي لتحقيق الاستدامة المالية ارتكازاً على حل اقتصادي متكامل من جوانبٍ متعددة، تتكامل فيه حزم من المبادرات التنفيذية لرفع كفاءة الانفاق، وتنويع مصادر ايرادات الخزينة من جانب، وحفز النمو الاقتصادي، وتعميق التنويع والتعقيد الاقتصادي، من باب انه عندما يكبر الاقتصادي نمواً متواصلاً وتنشط عجلة الانتاج وعجلة الاستهلاك نشاطاً متواتراً، تنمو - بالنتيجة - ايرادات الخزانة نمواً مستداماً، وتتحقق الاستدامة المالية بأن تُردم الفجوة.
وهنا يجدر استذكار ما ذكره سمو ولي العهد في مقابلته في العام 2020:“الشيء الأول: لابد من المحافظة على مالية متينة مستمرة قوية مستدامة وتؤدي إلى الغرض المطلوب للأبد، والشيء الثاني: أن تحافظ على الاقتصاد أن يستطيع أن ينمو ويستطيع أن ينهض بأدوات بعيدة عن الحكومة..”
وهكذا، يتضح أن هذا الحل يستهدف الأسباب الجذرية، هو أن الاقتصاد السعودي يتحول من اقتصاد نفطي إلى اقتصاد متنوع يعتمد على منشآت اقتصادية تساهم في تحقيق الاستدامة المالية للخزانة العامة من خلال مساهمتها في تحقيق المستهدف حرج الأهمية وهو التحول من اقتصاد يعتمد على إيرادات منشآت نفطية إلى اقتصاد يعتمد على إيرادات متنوعة ومستدامة.