آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

ظاهرة شيوع عمل الخير في المجتمع: حسنة أم سيئة؟

زكريا أبو سرير

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ [سورة التوبة 105]، وفي آية أخرى قال سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 274].

في الثقافة الإسلامية الكثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تدلل على أهمية عمل الخير بكل أوجه بل وترغب وتشجع على فعل الخير مهما كان مقدار ذلك العمل الذي يرغب المسلم القيام به وفي كل الأوقات والمناسبات.

بل تتضمن أدبيات الثقافة الإسلامية التربوية هدفية صناعة شخصية إسلامية نافعة ومنتجة، تغرس حب الخير والتشجيع والترغيب في أن يكون مسؤولا عن كل شبر على هذه الأرض، يراعي المصلحة العامة قبل الخاصة، ويحافظ على نعم الله التي أنعمها عليه، وتنهى نهيا شديدا عن ما يقلل من قدر أي عمل خير يرغب المسلم في التحرك نحوه، مهما كان حجم ذلك العمل وفي كل الأوقات، سواء رغب القيام به ليلا أو نهارا، فكل ذلك مقبول عند الله، وأجر أعمال الخير وثوابها أمرٌ لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى.

يكمن الشرط الأهم في أن تكون النوايا صادقة لوجه الكريم ”إنما الأعمال بالنيات“ ذلك أنه سبحانه ينظر إلى مدى الإخلاص النابع من قلب العبد إليه، إذ أنه سبحانه لا ينظر للكم بمقدار ما ينظر للكيف، الذي هو امتداد لخط الإخلاص لله سبحانه. لهذا لا ينبغي استصغار أي عمل خيري أي من كان وراءه، بل المطلوب منا تجاه أهل الخير الإذعان لهم بالشكر والامتنان بما يساهمون به في الأعمال الخيرية سواء كانت صغيرة أو كبيرة أو جاءت سرا أو علانية.

من الملاحظ، في السياق، أن بعضا من أبناء المجتمع تحدوهم الرغبة في المساهمة بالقيام بأعمال الخير ولكنهم لا يجدون الحاضنة التي تستقطبهم، أفرادا أم كيانات اعتبارية ذات طابع اجتماعي أو تجاري، هذه الفئات الاجتماعية بمختلف طبقاتها الاقتصادية والثقافية تجد أمامها بعض الصعوبات الاجتماعية في احتضان تلك الجهات مساهماتها التطوعية الخيرية أو تساهم في وضعها على طريق الاندماج الاجتماعي؛ ويعود ذلك في جانب منه إلى تضارب مفاهيمها بمفاهيم بعض شرائح المجتمع، حيث تشكل العقليات الأخرى أمامها سدّا منيعا وجدارا إسمنتيا يصعب اختراقه، فتقف حائرة في الكثير من المواقف الخيرية التي ترغب بالمساهمة فيها، وبذل كل ما بوسعها لوضع بصمة اجتماعية بارزة لها في الوسط الاجتماعي.

وكما يعلم الجميع من أبناء المجتمع سواء من يعمل في المؤسسات الخيرية أو من هم خارجها مدى أهمية أي مساعدة تصب في صناديق الخير وما يرتبط بهذه الينابيع الطيبة لدعم المحتاجين من أبناء المجتمع، وبالخصوص الفئة التي هي بأمس الحاجة لهذه المساعدات لأجل تغطية جانب من احتياجاتها الحيادية المهمة وهي تنتظر من المؤسسات الخيرية أن تمطر عليها بما يجود به أيدي أهل الخير.

قد يأتي العطاء الخيري مقابل إبراز شخصياتهم الاجتماعية أو مواقعهم التجارية في بعض منصات تلك المواقع الخيرية الاجتماعية لتعريف المجتمع بأنهم جزء من المجتمع، وللمجتمع حق عليهم. غير أنه ونتيجة لسوء فهم المطلب أو غياب الأسلوب العصري في استقطاب الدعم الخيري المتبع في كثير من المؤسسات الخيرية في دول العالم، والذي بدوره يحقق مكاسب عالية لدى الطرفين، المتبرِّع والمتلقي، بل يحقق علاقة شراكة منفعية اجتماعية بين الطرفين.

إن من المؤسف أن تصطدم هذه المجموعة من أهل الخير مع الثقافة الرائجة في الوسط الاجتماعي والتي لا تتفق مع هذه الرؤية، وتصر على أن العمل الخيري لا يكون إلا سراً، وخارج صندوق المنفعة المؤسسية والشخصية. ترى في العمل الخيري الآتي مقابل المنفعة الشخصية معاكساً لمفاهيم إسلامية، بل وتعتبره نوعاً من الرياء والمفاخرة الاجتماعية، وهذا أمر مرفوض دينياً واجتماعياً دون الحاجة للنظر إلى نياتهم القلبية، ونتيجة ذلك خسارة عطاء شريحة اجتماعية، والخسارة الكبرى تقع على الشريحة الضعيفة والمحتاجة لمثل هذه المساهمات الخيرية المنتظرة لسد بعض حاجاتهم الضرورية.

نعم هناك بلا شك شريحة اجتماعية تحاول أن تقوم بدور الآلهة في المجتمع، هي من تصنف قبول الأعمال أو ترفضها حسب مقاييسها العقلية والثقافية والعرفية دون تقدير لتأثير تلك المساهمات على سعادة بعض أبناء المجتمع الذين يعمهم ذلك بالخير والمنفعة. يأتي المخالف وبكل بساطة وينظر لتلك المساهمات الاجتماعية بفكر متصلب يقف سداً منيعاً أمام وصول تلك المساهمات الخيرية لأيدي هذه الشريحة الضعيفة؛ بسبب الحاجز الثقافي بينها وبين بعض المساهمين من أبناء المجتمع الذين تختلف رؤيتهم تماماً معهم.

هناك في المجتمع من شغله الشاغل رصد الأحداث الاجتماعية بكل صورها وأشكالها؛ لأجل أن يتجهز بالنقد اللاذع تجاه تلك الأفكار والمتغيرات العصرية والحديثة، وبالخصوص نحو الشخصيات البارزة، وما تصبوا إليه في مواطن الخير في المجتمع، معتمدة في ذلك على النقد السلبي المثبط، القائم على الظنون السيئة التي لا وجود لها في أرض الواقع، بل هي نفوسهم المريضة، مستهدفين بذلك رواد العمل الخيري التطوعي الاجتماعي الذين يقومون بخدمة المجتمع والوطن.

وهؤلاء النقاد السيئون لا يتورعون ولا يخافون الله سبحانه وتعالى، فضلاً عن عدم تحملهم لأي مسؤولية وطنية أو اجتماعية على عاتقهم، من تلك المسؤوليات الاجتماعية أو الوطنية التي تمليها عليهم المعايير الأخلاقية، والدينية والإنسانية التي هي من صميم المفاهيم الإسلامية، بل ينجرون وراء ثقافة التثبيط لكل عمل يحمل اسم الخير للآخرين والمجتمع متغافلين بأن الله سبحانه وتعالى يأمرنا على لسان نبيه الأكرم محمد ﷺ ببدل كل ما بوسعنا في عمل الخير في السر أو العلانية، بل ويبشرنا ربنا بأن أجر الأعمال الخيرية كانت سراً أو علانية محدداً بفضل حب هذه الأعمال عنده سبحانه، وهذا يدلل على عظمة الثواب والأجر الذي يناله هؤلاء الأخيار الذين ينفقون أموالهم في الخفاء أو الظاهر.

إذن، ما يريده الله من عباده هو الإخلاص النابع من قلوبهم، لا من تقيم أعمالهم من أي طرف. ولا ينبغي لأحد التشكيك في نوايا أحد، وليس مطلوباً من أحد أن يقوم بهذا الدور ويعرقل المسيرة الخيرية الإنسانية، بل يترك الأمر لله وحده دون أن ينصب أحد نفسه خليفة الله في أرضه وسمائه، ويقرر بأن هذا العمل صالح أو طالح. ينبغي علينا جميعاً أن نشجع بعضنا البعض على القيام بالأعمال الخيرية مهما كان مقدارها، وقبول أي ثقافة تتبنى الأعمال الخيرية بمفاهيمها الحديثة التي يتبناها أطياف المجتمع، وذلك لدعم المؤسسات الخيرية الوطنية وتقويتها. وهذا ما يترك وراءه انعكاساً إيجابياً على المجتمع وأبنائه، وبالخصوص الطبقة الاجتماعية الضعيفة والمحتاجة للمساعدة والعون من كل أطياف المجتمع. قال الله تعالى: ﴿قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ [سورة إبراهيم، آية 31]

مُهدى إلى روح أخي وصديقي الغالي المعلم والمربي الفاضل الشيخ علي الصفار رحمه الله.