آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

ناصفة البدوي

أثير السادة *

عندما كانت الطرقات تضيق بهذا التنوع الثقافي، وترسم حواجز متخيلة بين الناس، كان هو يكسر جليد تلك الخيالات، وهو يركن إلى ذاكرته الغائرة في تراب هذه الأرض، يعبر فضاء هذه المناسبة كلما طرقت أبوابها، الناصفة، أو الحلو عاد، أو القرقيعان في روايات أهل الساحل، يبحث عن نصيبه من الحلويات، ومن الذكريات معا، سحنته السمراء ولهجته المعجونة ببقايا لهجات أهل الصحراء، جعلت الصغار ينادونه بالبدوي منذ أول إطلالة له على هذا المكان، كان ذلك قبل ستين سنة أو يزيدون، دخل بين الناس ولم يخرج، صار واحدا منهم، تغفو عينه في ليالي السهر للامتحانات في سيهات، فتغيب المسافة بين هذه البلدة وبين أم الساهك، يصحو على صوت مواسم الدموع، فيدلف إلى تلك الأماكن الحزينة، يشارك في إعداد النارجيلة، وتوزيع الشاي، صبيا لا يعبأ بقلق الهويات، فهو مأسور ببساطة الناس وبساطة الحياة في الستينيات.

هبت نسائم الصحوة، والثورة، وتقلبت أحوال الناس، لكنه بقي يحرس هذه المسافة الحميمة في علاقته بأصدقاء الأمس، لا تسقط هواتفهم ولا عناوين بيوتهم سهوا من ذاكرته، ينسج من هذا الحنين المستمر مواعيد للتلاقي والتزاور معهم، حتى في أوج الخصومات السياسية، ما كانت الحوارات الساخنة لتفسد حبل الود الذي يحرص على أن لا ينقطع في تماوجات الحياة.

جاك لبدوي.. مرت عقود ونحن على ذات النول في تذكرينا للوالد بأن صديقه القديم قد جاء لزيارته، أبوسليمان النصار، هكذا حاولنا أن نعيد دوزنة لغتنا ونحن نشعر بهشاشة الوقت الذي نحياه، وكثافة الأمس الذي ما عرفناه، نعيد النظر إليه كفارس من فرسان الذاكرة، ذاكرة التعايش والتواصل، وذاكرة الطيبين الذين لم تحملهم صحراء الأمس إلى حالة من التصحر في أفكارهم وأرواحهم وأخلاقهم.

مرت ليلة الناصفة في هذا العام وهبت مع نسائمها ذكرى رحيله في القريب، حاولت يومها أن لا استسلم إلى كتابات النعي والرثاء، ولا التلويح بصور التعايش التي يروج لها الناس بكثير من التبهير، هو درس من كتاب الوقت الذي مر، حيث بياض الناس يغطي على سواد الخصومات العتيدة، حيث بساطتهم تفكك كل تعقيدات الحياة، في حين نكبر اليوم محفوفين بتعقيدات لا نقابلها إلا بالمزيد من التعقيدات في صياغة علاقتنا بالآخرين.

كان البدوي، أو هكذا تخيلناه، يشاركنا العيش والملح، يحضر بيننا كواحد منا، يغيب وقد يغيب سؤالنا عنه، لكنه يعود بعد مغامراته التجارية، أو مرضه، ليطرق الباب، يسأل عن أصدقاء الأمس، يأنس بالحديث معهم، يشاركهم مائدة الطعام كما يشاركهم مائدة الكلام، ينهي وصلة من الحديث الساخن بضحكات تذيب ملح العمر الذي نال من أسنانه وملامحه وصحته وأخذه في معركة الأمراض المزمنة والمستعصية إلى نهاياته، كان ذلك الزائر الذي كنا نحسبه غريبا، بعيدا، يرى في زوايا المدينة وطن ذكرياته، ومرتع صباه، في واحدة من فواصل عمره الكثيرة. لم يكن يشعر حتى بالانتقاص وهو يسمع وصف ”البدوي“ الذي ترميه سهام الصدفة إلى مسمعه، فكان قلبه أوسع من ضيق أوصافنا، وخيالاتنا، لا يخالجه الخوف ولا الشك في طبيعة الناس وطبيعة الأرض التي عرفها في إشراقة الروح، وعنفوان الشباب.