تأملات في الملحمة الحسينية
«المقال الأول: مقدمة»
أحرم الحجاج عن لذاتهم بعض الشهور وانا المحرم عن لذاتهم كل الدهور.
هذه الملحمة الحسينية والقصيدة التي من النادر أن يتخطاها خطيب حسيني في العشرة الأولى من شهر محرم الحرام، الساكنة في وجدان وذاكرة الموالين حتى أن كثيرا من أبياتها محفوظة في الذاكرة الشعبية فيكفي هذا البيت «ضمني عندك يا جداه في هذا الضريح» حتى يكمل الجمهور المستمع الأبيات...
هذه القصيدة المتمكنة في الذاكرة الجمعية لم يتم تناولها أدبيا كما ينبغي وكما تستحق ولو من باب شهرتها لدى الناس. وسوف أحاول أن أتناولها أدبيا وكمقدمة سأطرح ثلاثة أسئلة ونحاول الإجابة عليها.
بداية فن الملحمة هو فن دخيل على الأدب العربي،، ورد تعريف الملحمة ”إن الملحمة هي قصة شعرية طويلة تتناول بأسلوب سردي روائي موضوع البطولة، وسير الأبطال وتتضمن حوادث أو معارك بطولية، تحكي أعمالا خارقة وعجيبة لبطل رئيسي واحد أو «أكثر» ضمن جو خيالي تختلط فيه الحقائق بالأساطير والواقع بالخرافات، وتشترك فيه قوى من وراء الطبيعة وآلهة متعددة...“ [1] . إذا فالملحمة بالمعنى الأدبي قصيدة طويلة تحكي بطولات ويتداخل فيها الخيال والحقائق والخرافات والأساطير وتشترك فيها قوى من وراء الطبيعة «وآلهة متعددة». هذا التعريف الحرفي، تعريفها ولكن لو عدنا للملاحم في الأدب العربي وجدنا:
1. ملحمة فجر الإسلام للشاعر أحمد محرم عن بداية الإسلام وغزوات النبي.
2. ملحمة بولس سلامة «عيد الغدير» 1948م، تحتوي على 3000 آلآف بيت تتكلم عن نشأة الإسلام للعصر الراشدي، ثم للشاعر نفسه ملحمة «عرس الرياض» تحتوي على 8000 آلآف بيت عن ولادة المملكة العربية.
هذه الملاحم لا تحتوي على أساطير ولا خرافات ولا آلهة متعددة بل وقائع تاريخية وأبطال حقيقين.
وبالعودة لقصيدة الدمستاني فهي تتألف من 284 بيتا في 71 مربع وسنتحدث عن طريقة النظم لاحقا. وهي تروي قصة الإمام الحسين من خروجه من مكة حتى مقتله الشريف وعن السبايا بأسلوب سردي قصصي. نرى أنها تفتقد - حسب رأي النقاد - من شروط الملحمة «الطول - والخرافات والاساطير - والإلهة المتعددة».
ولكن الملاحم العربية التي ذكرناها تفتقد لعنصري «الخرافات والاساطير - والآلهة المتعددة»، هي تعتمد في بنائها على احداث تاريخية وحقيقية، وقد صنفت أنها ملاحم. ومن هنا فإن العنصر الوحيد الناقص هو الطول والقصيدة. على أي حال لا تعد قصيرة.
إذا تجاوزنا الطول فإن ملحمة الدمستاني تعد الملحمة الأولى في الأدب العربي، فهي تسبق الملاحم «فجر الإسلام، وعيد الغدير، وعرس الرياض» قرابة القرن من الزمان، بل أنها ستبق اهتمام النقاد في الملحمة وتسميتها وشروطها وتعريب الغربي للعربي بقرن أو يزيد، فهل يصح أن تكون الملحمة الأولى في الأدب العربي؟
نظم الدمستاني «رحمه الله» هذه القصيدة على نمط خاص وهي أقرب إلى فني «المربعات أو المسمطات». هذا ما يتبادر للذهن حين قراءتها. ولكن لو تأملنا في تعريفهما.
المربع: ”هو ذلك الشعر الذي يقسم فيه الشاعر قصيدته إلى أقسام، كل قسم منها أربعة أشطر، ويراعي الشاعر في هذه الأشطر نظاما ما للقافية“. ثم يذكر طريقة القافية في القسم الأخير، وهي التي تشبه قصيدة الدمستاني ”شعر المحدثين والذي يرمز له أ أ أ أ ب ب ب أ ج ج ج أ أي أن قافية الشطر الرابع تتكرر هي بعينها في كل قسم من أقسام المربعات“ [2] .
المسمطات: ”قصائد تتألف من أدوار وكل دور يتركب من أربعة شطور أو أكثر، وتتفق شطور كل دور بقافية واحدة ما عدا الشطر الأخير، فأنه يستقل بقافية مغايرة. وفي الوقت نفسه تتحد فيها مع الشطور الأخيرة في الأدوار المختلفة وسمي عمود المسمط فهو قطبه الذي يدور عليه“ [3] .
من خلال التعريفين السابقين نلحظ أن قصيدة الدمستاني هي أقرب ما تكون إلى هذين الفنين في الشكل لولا وجود اختلاف واحد هو تقسيمها إلى أشطر.
ولو تأملنا هذه النقطة في ملحمة الدمستاني لاحظنا أنها تتألف من أربع تفعيلات من بحر الرمل «فاعلاتن» هذا التكرار ليس من أوزان الخليل لأن بحر الرمل فاعلاتن ثلاث مرات في كل شطر وفي القصيدة للدمستاني أربع تفعيلات على النحو التالي: أحرم الحجاج عن لذاتهم بعض الشهور
أحرم الح/ جاج عن لذ /ذاتهم بع /ض الشهور
فاعلاتن / فاعلاتن / فاعلاتن / فاعلاتن
الملحمة تخرج عن أوزان الخليل إذا اعتبرنا أن كل سطر شطر في القصيدة، وتكون ضمن اوزان الخليل إذا اعتبرنا أن السطر هو بيت مدور من مجزوء الرمل وربما هذا ما يميل إليه العلامة الفضلي في وصفه ”يتألف كل مقطع من أربعة أبيات تنتهي الثلاثة الأولى بقافية وينتهي البيت الرابع بقافية القصيدة“، ثم يضيف ”والذي أخاله - في حدود قراءتي لشعر الطف -: أن الدمستاني أول من نظم هذا النوع من الشعر“ [4] .
ومن القصائد المعروفة المشهورة في غير الشعر الحسيني التي تتوافق مع الملحمة وزنا وشكلا - التربيع أو السمط - هي قصيدة الطلاسم لأليا أبو ماضي.
وبتصفح كتاب رياض المدح والرثاء للوقوف على شكل القصيدة فيه «المربع أو المسمط» نرى أنها قصائد قليلية مثل:
قصيدة للسيد جعفر الحلي مطلعها..
بأبي أفدي قتيلا في الطفوف *** نهبت أحشاءه بيض السيوف[5]
وقصيدة سلمان البحراني..
سل الطف عن ركب به حف موكبُ *** من الملآ الاعلى ينوح ويندب[6]
وعدد من القصائد لـ الشيخ عبد الحسين شكر قصيدتان[7] ، لمجوعة من المؤلفين بما فيهم مؤلف كتاب رياض المدح والرثاء[8] .
الملاحظ أن جميع هذه القصائد في اشطرها على أوزان الخليل ماعدا قصيدة الدمستاني وقصيده عبد الحسين شكر تشابه قصيدة الدمستاني وفي استخدام الابيات بدل من الأشطر إذ اعتمد مجزوء الكامل.
من الواضح أن الشيخ الدمستاني اختار هذا الوزن الذي استحدثه بما يتناسب مع سرد الواقعة والشيخ في قصائده كلها يختار الأوزان الجزلة - من خلال المرور على مطالع قصائده في ديوانه «نيل الأماني» الموجود في الانترنت -، ويستثنى من ذلك الاراجيز التي في أول الديوان. وهذا ما يؤكد لدينا الميل أن الشيخ المرحوم الدمستاني كان قاصدا في ابتكار هذا الوزن والشكل من أجل أن يساعده في سرد قصيدته التي تصور مقتل الإمام الحسين وسوف نتناولها بشيء من التحليل في مقالات لاحقة.