تأملات حالمة.. في إشراقة الابتسامة
ولو تأمّلت أوراقِي لتَقرأهَا.. رأيتَ تأَمُّلاتِي جُلّ أَوراقِي
1. يَرى ويُدرك عامة السّوادِ الأعظمِ مِن الناس بُزوغ وَقار سِيماء الابتسامةِ المُشرقةِ الوضّاءةِ، في إطارِ رسمِ انبساطِ عضلاتِ إشراقةِ مُحيّاها المُنفتِح المُنشرِح ابتهاجًا وإنعامًا، في لُبابِ صَميمِ وحَميمِ أسمَى وأرقَى تواصلِ أَناسِيها الاجتماعي… غَير أنّ دَلالَات وشَواهِدَ إشراقةِ امتدادِ بزوغِ وسُطوعِ وهَجِ الابتسامةِ الشاخصةِ الضافيةِ، تتجلّى اشتمالًا، بمَوفورِ جمالِ ورقّةِ مَلامِحها عَطاءً، ورِفدًا مُستحقّين، بفائقِ ورائقِ، جُلّ أسنَى صِلاتهما الربّابية المَورِد - توهّجًا وتألّقًا - ذاتيّين صادحَين، في طيّات لَفيفِ أجوافِ إضاءاتٍ رُوحانيةٍ، كَونيةِ الخِلقةِ، ورَبانيةِ البِنيةِ، وجَوهريةِ الهَيأةِ… عِندما تتلاقحُ قطاميرُ جَنينِ حَفنةِ بُذورِها الغضّةِ النضرةِ؛ لتُصافحَ وتُعانقَ انسجامًا، ذراتَ تُربةٍ حَاضنةٍ خِصبةٍ؛ لتنعمَ عَينا ناظرِها المَبرور المَحبور، بفيضِ السعادةِ؛ وتُكرّم بذائقةِ الانشراحِ؛ وتندَى رِيًا بتباشيرِ الأملِ الواعدِ…!
2. وقَد تَرى وتلحَظ زخمَ فرطِ الذائقةِ المِزاجيةِ ”العَلقميّةِ“ للشخصِ المُتصلّفِ المُتعجرِفِ، بأنّ فنّ إجادةِ وبراعةِ رسم ألقِ الابتسامةِ الحَانيةِ المُستأنَسةِ، وإهدائها طوعًا إلى داخلةِ سَريرةِ مَن نُحِب، ونُصاحب، ومَن لَا نَعرف؛ وفي مَقامِ أحضانِ عامّة الشُّخوصِ القائمةِ، بمختلفِ مُستوياتِ أعمارِهم، وفئاتِ مَنازِلِهم الاجتماعية، هو ضَربٌ مِن التّرف السلوكي الزائد؛ ونهجٌ مِن الخُنوعِ المُداهِن السائدِ؛ وعيبٌ ”دُونِي“ مُلازمٌ، يُلحِق بإذلالِ شخصيةِ الفردِ ”الخنوع“ الذي مَا فتِئ يستأنَس ويستلطَف سَحنةَ الابتسامةِ الصافيةِ الضافيةِ، قَلبًا وقَالبًا؛ واتّخذَها دَيدنًا سَالكًا، ومَيلًا نافذًا؛ لتزكيةِ بهجةِ النفسِ الهادِئة، وتحمِيدِ مَسرّةِ الخاطِر المُستقِرّة؛ ومُخالفةَ مَواقفَ شِدّة العَنتِ والمُكابرةِ، لِمن لَا يُبدي إهداء وِسام تلك الابتسامة العريضة للآخرين، في ساعةِ وقتها… وقد أبدَاها ”طيب القلب“ إكرامًا وجَهرةً؛ ورَسم فنَّها عَلانيةً، أمام المَلأ الحاضِر مِن حَوله، مُبدِيها ومُهدِيها احتِسابًا ويَقينًا… فلا أَثر لابتسامةٍ شَاحبةٍ باهِتةٍ، ولا خَبر لضِحكةٍ مُصطنعةٍ سَاخِرةٍ… ودَليلُنا مَا أبداه وأظهره نبيّ الله سُليمان الحكِيم، عليه وعلى نبيّنا الكَريم، أفضل الصلاة، وأتمّ التسلِيم، في سُطور تفاصيل قصّته الشائقة المعروفة، في مَتن الكتاب المجيد، حِينما سمِع وفهِم قولَ النّملةِ المُحذّرةِ الناصِحةِ لجماعتِها، مِن خطرِ البطشِ المُحدِقِ، وغِيلةِ الهلاكِ المُحتمَلِ، مِن تقدّمِ سُليمانَ وجُندِه…
فتراهُ ”مُبتسَمًا ضَاحِكًا“ رَاسِمًا ودِيع وبدِيع ابتسامةٍ لَطيفةٍ رَهيفةٍ؛ ومُجانبًا صَخبَ الضحكةِ المُقَهقِهةِ العاليةِ المَنبوذةَ، بمُجرّد سَماعِ صَريحِ دِيباجةِ الإفادةِ الرّصينةِ المُعلنةِ للنملةِ المُنادِيةِ المُحذّرةِ… فكان رسمُ ابتسامةِ النبي المُكرّم استلطافًا ومُواساةً، لمقامِ النملةِ، المُستصغَرةِ الوزنِ والشأن، ولله في سَائر خَلقهِ شؤون!
3. وكَما أنّ لكلمةِ إصلاحِ ذاتِ البينِ المُربّيةِ دورٌ أساس، في تطييب النفوس؛ وإحياء القلوب؛ وإزالة مَا علُق بهما مِن رَينٍ وخَبثٍ، فلرتِسامِ سَحنةِ الابتسامةِ الصافيةِ كِفلٌ مُماثلٌ، مِن إراحةِ النفسِ، ونقاءِ السّريرةِ، وفنّ صِناعِة الإشراقةِ الداخليةِ المُتكاملةِ؛ لتُعدّ وتُهدى بجاذب بريقها ”مُتبرّجةً“ مُشرقةً، بأجملِ صُورةٍ مُثلى؛ وأندَى عَطيةٍ تُقدّمُ إلى مقامِ دَواخلِ النفوسِ الزاهيةِ المُحترمةِ مِن حَولنا، بأناقةِ شُموخٍ وعُلوّ اتّزانٍ… ولَا أدَلّ وأصدَق مٍن إخبارِ نبينا الكريم، عليه وآلِه الطّيبين الطاهِرين، وأصحابِه الغُر المَيامِين: «تَبَسُمُكَ في وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقةٌ». ويُماثلُ ذلك القول النبوي، قول الإمام علي بن أبي طالب - : «البَشَاشَةُ حِبَالَةُ المَوَدّةِ».
واستنادًا إلى مُعطياتِ التحليلِ ”الكيميائي - الفسيولوجي“ فإن رسمَ الابتسامةِ، «يحفز إفراز مادة ”القابا“ وهي ناقل عصبي، يصل مفعوله إلى الخلايا الدماغية؛ ويؤدّي إلى استرخاء المُستقبلات العصبية؛ وبالتالي يشعُر الشخص المُبتسم بالراحة والاسترخاء».
4. وهُناك، جُملةٌ حَالمةٌ مِن أندَى اللّحظاتِ الحيويةِ الحانيةِ، ومِثلها هُنيهاتٍ جَامعةٍ وَفيّةٍ، مِن أسمَى ألقِ ولَمعانِ المواقفِ المُبهجةِ السَّنِيةِ، التي لَا يُنسى جَميلُ شَاهدِ أثرِها النابض، ولايَخبو صَقيلُ دَلالةِ ذِكرها المائج، ولَا تُمحَى أيقونةُ رسمِ فيضِ مَضامِينِها الصادحةِ، وإنْ تقلّبت وتبدّلت أحوالُ وصُروفُ الدّهرِ؛ واتسمت أيامُها العَصيبةِ الشّديدةِ بنوباتِ الأسَى؛ وضَاقت بنازِلاتِ الضجَرِ، وغرّد الطيرُ شَاديًا جَذِلًا، بين مساحات الروابي المُزهرةِ، وفي بطن الوادي؛ وفي قمم أعالِي الشّجر… فأصبحت الابتسامةُ حاضِنتها، وأمسَت البشاشةُ، وصِيفةُ حُسنها اللّامعِ المُشرِقِ، و”ولِيفةُ“ جَمالها الفاتنِ المُتألّقِ… وبينَما الطفل الرضيع قد أحسَّ بالوِحدة لبُرهةٍ فائتةٍ؛ فانخرط في نوبةٍ مِن البُكاء والنشِيج، وإذا بالأمّ الحانية تَجذب طِفلَها الباكي؛ وتَضمّهُ إلى صدرها؛ وتُربّتُ على كتفيه؛ وتَمسحُ على أمّ رأسه؛ وتُناغيه بابتسامة رقيقة… ومَا هي إلّا وَمضة هنُيهةٍ، حتّى تتحوّل انهمارُ الدموعِ الساخنةِ، إلى تنهداتِ وِئامٍ؛ ويرقى البكاء إلى لحظات سَلام، تؤطّرها ارتسامًا مَلحوظًا، ابتساماتٌ عَريضةٌ حَانيةٌ؛ إنّها ابتسامات الحياة! … ولَا أكادُ أنسَى ذلك الموقِف المُؤثّر المُماثل، الذي يعودُ الأب الحَدِب، في سَاعته، إلى مُستقرّ أفراد أسرته، بعد سفرِ غيابٍ طويلٍ… وقد استقبلهم، جَمعًا وفُرادى، واستقبلوه بمثلِها، برشّاتٍ ”مُثلجِةٍ“ مِن عَبق الحنينِ الأبوِي النابضِ بشَآبيبٍ مُتدفّقةٍ مِن نسقِ سلسلةِ الابتساماتِ الضافيةِ، في ظلّ مساحةِ الأحضانِ الساخنةِ، التي ينطلقُ دفقُ هُبوبِها مِن دَواخِل شِغافِ القلبِ؛ ليستقرّ ريعُ عطاءِ تلك النسماتُ الباردةِ العليلةِ في عُقر مَنازلِها المُتآلفةِ المُحِبّةِ؛ ليختلِط صَفاؤها ببلسمٍ مُطابقٍ مُماثلٍ، مِن عبق تَبادُلِ وتَراشُقِ ”فيلقٍ“ عَرمرَمٍ مِن ابتسامات عِشقٍ نَوعيٍّ مُميّزٍ، مُرتبطٍ بجُذورِ مَحبّة الآباءِ والأجدادِ البرَرَةِ؛ لتمتَدَ وتترسّخَ أصولُ تلك الجُذورِ الطيّبةِ الصالحةِ إلى مُستقبلاتِ أنفاسِ كوكَباتِ أجيالٍ قادمةٍ، تزينها دَماثةُ نفوسٍ باسمةٍ ساعيةً إلى غرسِ، وزرعِ، وحصد بشاشةِ المشاعرِ الحمِيمةِ؛ بنثرِ ونشرِ المزيدِ مِن باقاتِ الأملِ الباسمةِ المُتهلّلةِ، في كلّ البِقاع، وإن عاكَسها الدهرُ قَهرًا، بعُبوسٍ كَالحٍ، فستحتَفي بتَفاؤلٍ وتَيمُّنٍ يومًا، في متّسعِ رحابةِ أجوائهِ الخانقةُ ”بسرمدة“ رسمِ ديدنِ زخمِ الابتساماتِ الواعيةِ المِضيافِ...!
5. هَذا، ولِمختلفِ مفاهيم الثقافات العالمية، أنماطُ إطلالاتٍ مُستبشرةٍ؛ ونظراتِ إشراقاتٍ مُرحّبةٌ بالوُجوهِ البشُوشةِ الباسِمةِ؛ فَذاك رائدُ الفلسفةِ التجريبيةِ الإنحليزي/ جُون لُوك، الذي أدلَى بدلوِه، في ارتسامِ البسمةِ الجاذبة، في مُحيّا الوجوهِ البشوشةِ: «الوَجْهُ البَشُوشُ شَمْسٌ ثَانيَةٌ»... ومِثل جون لوك، أجادت قريحةُ الأديبِ الفرنسي العبقري/ فُولتير بمقولته الرائعةِ: «الابتسامةُ تُذِيبُ الجَلِيدَ، وتَنشُرُ الارتِيَاحَ، وتُبلسِمُ الجِرَاحَ، إِنَّها مفْتاح العَلاقَاتِ الإِنسَانِيةِ الصّافِيةِ»... وأمّا تألّق وهَج نعوت الابتسامة في القارّة الأمريكية فله طعمٌ عَصريٌّ، ومذاقٌ ”فِيزيائي“ السّك، يتصدّره المثل الأمريكي الشعبي: «العالمُ آلةُ تَصْوِير، ابْتَسِمْ مِنْ فَضْلِك!». ويُوآزر صِياغة ذلك المثلُ الفيزيائي، نظيره للشاعر، وكاتب السيرة الذاتية للرئيس أبراهام لينكن/ كارل ساندبرغ: «ابْتِسامَةُ المَرأَةِ شُعاعٌ تَفُوقُ سُرْعَتُهُ سُرْعَةَ الضَّوْءِ».