آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:44 م

داء الرقي الأخلاقي

أحمد رضا الزيلعي

تمهيد

مرت بي فترة انبهار وذوبان بسيرة عرفائنا المقدسين، دام ظل أهل الفضل والمرجعية منهم وقدس الله أرواح الماضين وسدد المولى باقي أهل هذا المسلك. وهي سيرة زاخرة بالصور المقدسة من القرب إلى الله عز وجل والولاء الصادق بأرقى صوره للنبي ﷺ. لذا فإن حقيقة أنهم مصداق لمفهوم ”ولي الله ورسوله“ واضحة للمنصف بغض النظر عن الخلاف في العرفان النظري بين الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والعرفاء.

لُبُّ المقال

على كل حال، من الصفات التي أبهرتني في سيرتهم، وهي تعتبر سمة أو ظاهرة فيهم، هي صفة ”قهر النفس“ بمنعها عن كل أسباب الغرور والاعجاب. وهذه صورة براقة ومشرقة اقتنعت بها عن تجربة لذلك حاولت تطبيقها على نفسي بقدر ما أستطيع، حتى أرشدنا أحد الفضلاء من على منبر الحسين نتيجة العلاقة اللصيقة «تلميحاً لا تصريحاً، لذا جوهر هذا المقال من فيوضه المباركة» أن في ذلك زهداً ولكنه زهدٌ مذموم يعرقل مسيرة الإنسان. وبالمناسبة، لأحد أعلام المذهب الكبار دام عطاؤه محاضرة جوهرية وقيمة جداً لعلاج هذه النقطة بعنوان ”بين أخلاق الموت وأخلاق الحياة“ تستحق القراءة والاطلاع عليها [1] .

كما لمست رجاحة الفكرة سابقاً عن تجربة كذلك لمست الأثر السلبي لتفعيلها على أرض الواقع ”بدون خبرة“ أو بدون ارشاد ”أهل الذكر“ عموماً. فالخُلق ”هو حب الجمال“، وأي عمل يصدر منَّا ومنطلقهُ حب الجمال فهو خلق [2] . ولكن نتيجة الإفراط في تفعيل ذلك السلوك يفقد الإنسان ثقته بنفسه وبالتالي ينشأ مجتمعٌ مهزوز الثقة بسبب دعوى ”الرقي الأخلاقي“ ولذلك أطلقت عليه ”داء“ رغم أنه فعلٌ على خطى معارج سلوك. وهذا لا يعني الإفراط في الاعتداد بالذات وقدراتها وامكانياتها لأن منهج الأخلاق هو الوسطية وهي ”كل عمل قامت الحجة الواضحة على مشروعيته.... سواءً كانت الحجة عقلية أو إجماع أو آية، فإن قامت الحجة القاطعة على مشروعيته فهو وسط وما سواه في إفراط أو تفريط“ [3] .

فهذه سيرة النبي وأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين منار الحق والحقيقة، فعلى سبيل المثال تستوقفك كثرة النصوص الواردة عن أمير المؤمنين التي يظهر فيها مزاياه أمام الأمة والتي قد تفهم خطأً كما فهمها بعض المخالفين غافلين عن أنه صلوات الله وسلامه عليه وأخيه المصطفى وآلهما الطاهرين أنه كان بصدد علاج حالة اجتماعية سائدة نتيجة تأخيره عن الإمامة الظاهرية فما كان من طريق لعلاج هذه الحالة وزرع الثقة في القائد إلا ابراز الصفات المميزة فيه سلام الله عليه وآله الطاهرين وتكرارها والتأكيد عليها وهي صفات ”الوصي الحق“ بعد رسول الله ﷺ التي جاءته الإمامة الظاهرية خاضعة طائعة ذليلة بعد شموصها وتمنعها.

على أي حال، نحن يجب أن نقتفي هذا الطريق بإبراز القدرات المميزة في مجتمعاتنا ”بالوسطية الأخلاقية“ لنحفز الأجيال الناشئة والقادمة على الطموح على التميز في المجال الديني والدنيوي وذلك من خلال جعل صورته الحالية وصورته المستقبلية أمام ناظريه فيقارن بينها ليعمل على تعزيز النقاط القوية والتخلص من النقاط السلبية أو تقويتها بحسب كل حالة وما تقتضي، على أن تكون المقارنة مع الذات لا مع الأخر فلكل فرد ومجتمع ظروفه التي تخصه.

نعم يجب ألا يكون هذا ”التمييز“ هو من يزيننا بل يجب أن نكون نحن من نزينه ب ”أخلاقنا الوسطية الراقية“، ولنا في أمير المؤمنين أسوة حسنة حيث سلَّم القاصي والداني والصديق والعدو أنه ”زان الخلافة وما زانته“ فعن عبد الله بن عبّاس «رضوان الله عليه» أنه قال: دخلت على أَمير المؤمنين صلوات الله عليه بذي قار وهو يخصِف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمةَ لها! قال: واللهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ، إِلّا أَنْ أُقِيْمَ حَقَّاً، أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً ”«وهذه الرواية على غرار التحديث بمميزاته للأمة لكي تعرف الصفات المميزة“ للوصي الحق ”فتقتدي به وبها». وبحمد الله كثير من المجتمعات تجاوزت مرحلة الغرور بمستواها العلمي والثقافي حيث رقت على معارج السمو ولكن ينبغي أن تحذر من الانزلاق إلى حالة الافراط بحيث لا نرى تقديراً وتكريماً واحتراماً للطاقات المميزة فيها. نعم من رقي بعض“ المميزين ”أنهم يرفضون تقديم ذلك لهم ولكن لا ينبغي التسليم لهذا الطلب دائماً لأن الأمر ينطوي على“ حقَّين":

حق لشخص المُكرَّم

حق للمجتمع.

نعم من حق المميزين طلبهم عدم اظهار الاحتفاء بهم ولكن من حق المجتمع تربية أبنائه على تكريم أهل العلم والفضل في شتى مجالات العلم بل وحتى في المهن والثقافة وغيرها.

لذلك الله الله أن تضيع ثقة المجتمعات بقدراتها بين افراط ”الرقي الأخلاقي «الزهد المذموم»“ من الكفاءات وبين تفريط ”الاعراض عن الغرور“ المجتمعي.

الخلاصة

أعظم صفات النبي ﷺ ”الخلق العظيم“ بصريح القرآن الكريم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «الآية 4سورة القلم».

الأخلاق والعرفان لابد من تعلمها على يد أستاذ متمكن وملم ومحيط بجميع بحوثها عن خبرة وتجربة بحيث أصبح يشار إليه بالبنان في خلقه وسلوكه.

العرفان مرحلة لما بعد اتقان الفقه والأخلاق، فهي ساحة سامية جداً ليست للأغرار من المؤمنين.

الخلق هو ما زان الإنسان بجماله وهو الوسطية وما عدا ذلك هو إفراط وتفريط. وقد تظهر بعض الصور أنها افراط أو تفريط ولكن جوهرها هو علاج حالة استدعت إلى زيادة الجرعة وهذا ما يعيدنا للتركيز على دور المرشد الخبير. لذلك لعلاج بعض الحالات لابد من اظهار بعض الأسرار بهدف معالجة قضية أخرى أهم لا بهدف التباهي أو الفخر، مثال/ الإعلان بالصدقة رغم أفضلية صدقة السر وذلك لتشجيع المجتمع على الصدقة كما أمر الشرع الحنيف في روايات العترة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

نفحة روائية:

”نعم أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا خاتم النبيين وإمام المتقين ورسول رب العالمين“ [4] ... قال محمد بن عبد الله ﷺ.

والحمد لله وحده